عاش زهير ابن أبي سلمى ثمانين حولا، فأعلن سأمه منها. غلبه سعيد عقل بعشرين، فها هو يودع مئويته باحتفالية زاهية، ولم يعلن برمه بالعمر المديد، ولم يتكاسل قرّاؤه ومحبوه عن الاحتفال به مع كل خفقة شعر. سنوات سعيد عقل كانت مليئة عن آخرها. كانت فائضة إلى الحد الذي أغرقت كثر. فاض شعر سعيد عقل بعذوبة الغزل، وبالابتكارات النحتية في اللغة، وبصور مستمدة من خزين متسع لإرث الشرق والثقافات الكونية. كتب أجمل قصيدة عن أم مدائن المسلمين: “غنيت مكة أهلها الصيدا”. وألبس دمشق ثوب عشق لا يبلى: “مرّ بي يا واعدا وعدا/ مثلما النسمة من بردى”. دمشق المدينة التي تتماهى مع لحظ حسانها: “الهوى لحظ شآمية رق حتى خلته نفدا”. لكن اقتصار قراءة سعيد عقل على تجربته الشعرية فحسب، يورث خللا في القراءة نفسها، وإخلالا بمجمل النتاج غير الشعري له. فأمام هذا النتاج، نجد أننا إزاء نسختين من سعيد عقل: النسخة الشعرية، والنسخة “الدعوية” إن جاز التعبير. فالشاعر صاحب الطلّة “النجومية”، بوسامته وشعره “المنفوش” وصوته المسرحي، اتكأ على رصيده الشعري لكي يصيغ دعوة متطرفة إلى “القومية اللبنانية”، تبرز من ثناياها شوفينية شعاراتية مختصرها: “لبننة العالم”. وتقوم تلك الشوفينية على عنجهية شخصية، عبر عنها سعيد عقل بقوله: “أنا أبو ما أخذوا يسمونه في وطني لبنان، لبنان العظمة ذلك أنني كمطلع على تاريخ الحضارة تسنى لي أن أكتشف إن بلادي لبنان هي أساس الحضارة (...) لبنان العظمة هو بلد ذو إرث أتوقع أن يدرس ذات يوم في المانيا وفرنسا وإيطاليا على قدم المساواة مع تدريس ماهية إيل والرياضيات”. لكن هذه الشعاراتية سوف تتحول لاحقا إلى ما يشبه المشروع. سوف يدعو سعيد عقل إلى تخلي “اللغّا اللبنانيي” عن الحرف العربي، وسوف يعد قاموسا بالحرف اللاتيني لتنفيذ فكرته، ومن ثم سيكتب مجموعته الشعرية “يارا” بذلك الحرف الذي أعجز أغلب المدققين عن فك طلاسمها وتذوق مكنونها. وظهر مريدون في السبعينيات والثمانينيات للترويج لهذه الفكرة عن طريق مجلة توسلت الحرف الهجين. والأخطر من كل ذلك، أن ميليشيا عنصرية مسلحة اسمها “حراس الأرز”، سوف تتبنى دعوة سعيد عقل، وتحاول تنفيذها بأبشع ما يمكن أن تقترفه ميليشيا. ربما كانت في ذهن سعيد عقل، وهو ينافح عن دعوته تلك، صورة كمال أتاتورك وهو يعلن طلاق اللغة التركية مع الحرف العربي وتبنيها الحرف اللاتيني، تأسيسا لقومية طورانية، علمانية، تتنكر لتاريخها. لكن فات الرجل، أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، وهي لغة الحضارة العربية التي أسهم مسيحيون لبنانيون متنورون في حمايتها عندما حاول العثمانيون تتريك المنطقة العربية وثقافتها. طبعا لم يكن سعيد عقل وحيدا في محاولة تأصيل، وتجذير النزعة الانعزالية في لبنان. سبقه، ورافقه، مفكرون، وسياسيون، ورجال كهنوت، وكيانات حزبية.. لكن الضجيج الذي أحدثه سعيد عقل طغى على كل ضجيج آخر. والسبب هو ذلك التداخل بين السياسي والفكري والشعري في شخصيته. لكأنه أراد أن يعطي من صيته الثقافي، كشاعر جميل وقدير، لصالح دعواته التي أورثته صفير الاستهجان بدلا من آهات الإعجاب.. ومع ذلك سوف نظل نتذكر سعيد عقل كشاعر أولا وأخيرا، يستحق الاحتفاء والتبجيل، لكي لا تكون ملاحظة الشاعر أنسي الحاج عن الاحتفال بمئويته علامة فارقة: “أكبر شاعر عربي حيّ تحتفل به طائفته لا قرّاء العربية”. adelk58@hotmail.com