لهذه اللحظة أن تحتفي بي، أن تؤرخني، أنا الجالسة الآن في عمق الليل، في هدوئه متئداً يسير إلى نهايته ليلج النهار بمفاتنه، بإشراقته، بدفق الحياة في الكائنات التي غفت في عتمة الليل، التي التحفت بغطائه واستكانت إلى رأفته. لماذا تنام الكائنات في حضن الليل مطمئنة ليوقظها شعاع النهار كمن يربت برفق الأمومة أطفاله كي يستيقظوا؟ هنا في هذا المساء الساكن أنقش حضوري وأعد ساعات الزمن في انتظار من نحب. غدا سيأتي أقول وبين هذه اللحظة والغد ليس إلا تكة الساعة، إذ تؤشر لانسياب الزمن . وسواء أوقفت عجلة الساعة وألغيت طقتها في الحراك، سينساب الزمن خارج التقنين والإرادة والتقويم. ما التقويم إلا نحن حين شئنا أن نحصر الزمن في قياس ونأدلجه في معرفة. بينما الزمن ينساب مطمئنا خارج تعريفنا واصطلاحنا. هل الزمن تعاقب الليل والنهار، النور والظلمة، الصخب والهدوء، الغفو واليقظة، الفعل والسكون؟ هل الزمن ما نعرف أم ما نجهل؟ من أرخ تعاقب الليل والنهار في عدد كي نحصي به مولدنا وسيرورتنا، حضورنا وغيابنا؟ كل الكائنات عدا الإنسان لا يرقب الزمن ولا يؤرخ وجوده في الوجود. ولا غيابه حين الغياب؟ الحضور والغياب شرط الكائنات الحية وفطرة كينونتها. نحن البشر حين أرهقنا الفقد وجرحتنا فجيعته، انتبهنا إلى التأريخ. دونا تاريخ مولدنا ودون الآخرون تاريخ غيابنا. فحين الغياب، يغيب الزمن والتاريخ والتقويم ودقة الساعة وهي تجر حضورنا في الزمان إلى غيبه. منذ ملايين السنين تشرق الشمس وتغيب. منذ أزل لا ندرك مبتدأه إلى زمن لا ندرك منتهاه، تظل الشمس تشرق والليل يتهادى في إثر خفوت إشعاعها. من انتبه إلى هذا التدوين والتقسيم الذي نحصي به أعمارنا وعمر هذا الكوكب؟ من قسم سيرورة الشعاع إلى خطى تتعاقب في الأشراق والخفوت؟ من سمى العتمة ليلا وسمى الإشراق نهارا؟ لماذا تنام الكائنات حين يسحب النهار شعاعه وينشر الليل دثاره؟ كل الكائنات لا تدرك هذا السر. عدا الإنسان، كائن الطبيعة هذا الذي أوغل في البحث والتأويل والتعليل، ليسبر السر ويكشف المختبئ في الطبيعة ويقرأ قانونها الخفي. نحن البشر وحدنا دون سائر الكائنات عرّفنا سيرورة الطبيعة بالزمن وأرخنا حركة تبدلاتها بالأرقام. نحن وحدنا كي نحصي أيامنا وننقش في مسار العمر أفعالنا وأحلامنا. منذ الحضارات البدائية إلى الحاضر المدرك يظل الزمن قياسا للصعود وللسقوط. للحضور وللغياب. ونظل نحن محاصرين بعقارب الساعة تلدغنا كلما ضجت في سمعنا دقاتها وكلما زعمنا أننا لن ننتبه. ولخوفنا أو اعتقادنا أن الزمن قد يمر دون انتباهنا ابتكرنا له قيودا وأساور تحيط معاصمنا على مدار العمر ونمنمنا القيود بالزخارف وأضفينا عليها قيمة جمالية ومادية تشير إلى اليسر والرتبة الاجتماعية التي ننتمي إليها. لكن دقات الساعة لا تأبه بالزخارف ولا بأوهامنا الخروج من قيود الزمن وطرقه المستبد. سنظل نحصي الزمن ويرقبنا ساخرا بعد الغياب ! أدوّنُ ما تناثر من سنيني وأحصي الخطو ما دون الغياب كأني جئت لا أدري لماذا أجوهرة كنتُ أم لمع السراب! hamdahkhamis@yahoo.com