لم يكن الحج قبل ربع قرن كما هو عليه الآن، كانت المشقة أكبر، والمجاهدة أعظم، والاهتمام الصحي والظروف المعيشية أقل، لذا انضممنا إلى إحدى حملات الحج برفقة كبيرة من الأهل والأصدقاء والمعارف، هذه الرفقة تجمع الكبير والصغير، المتعلم والجاهل، الفَرِح والمتجهم، الكريم والبخيل، السمحة والحنّانة، العفوية والمنّانة، لقد كان جمعاً أليفاً ومتوالفاً، وكعادة الأعراب في حجهم أو تمتعهم، في جدهم أو هزلهم، يصبغون الأشياء بصبغتهم وطابعهم، لكنها لا تخلو من بسمة وضحكة آخر الليل، فهم يتنازعون على أقل القليل، ويحلفون بالطلاق في الحج، وبـ «رفجة الشيوخ» في صحن المسجد النبوي، لا تمضي الأمور دون تعليق مضحك منهم، فالرز الذي يقدمه مقاول الحج، حلف واحد منهم أنه ذاق من عيش الأمير في الخمسينيات، وكان أطيب منه، أما النساء فيصفنه بأنه عيش «كرّدَه» وأن البقر لا يأكلنه، ومرة أراد المسكين أن يحسن اليهم، ويقدم لهم فطوراً على الطريقة الحجازية « فول وشكشوكة وفاصوليا ومربى وزبد وزيتون» فأقسم الرجال الملتحون أن يورّوا الضو في نصف الحوش إن كان الريوق على هذا الحال، أما النسوان فشكوتهم منذ الفجر من «الحصوصة ومن السهج في المواعين» وأن قهوتهم سريب وأكلهم محوحي، أما الحنّانة المنّانة منهن، ففنجانها في صرة وقايتها، واللقمة تكون قريبة من الأنف أولاً ثم الفم.?الشكوى لا تقتصر على الأكل فالأعراب ضجرون من الحشود الكبيرة، ومن مزاحمة الأفارقة الأقوياء لهم، ومن رائحتهم القوية التي كثيراً ما كانت تصرع العجائز في الطواف أو السعي، يتململون إذا ما طالت قراءة الإمام، يتشاجرون إذا ما احتك بهم حاج غريب، وجاءت يده صدفة قريبة من الكمر الذي يزنر به الخصر وفيه فلوسه وغوازيه. ?أحد هؤلاء الذين كانوا يعدون نقودهم كلما وصلوا السكن، ولا ينامون إلا وهم مطمئنون أنها نائمة تحتهم، كان شخصاً ظريفاً لكنه شحيح، مرات كثيرة ونحن عائدون من الحرم أطلب منه أن يرافقني إلى السوق، ويتعجب من مشترياتي الكثيرة التي بلا داع، ويقول أنت تلعب ما تشتري، كنا وأثناء مرورنا بالسوق نصادف شحاذاً محطماً يمشي على ركبتيه ويديه، ورجلاه مرفوعتان خلف ظهره، كنت أسرب له ما تيسر من فكة المال، ورفيقي ينظر إليّ وإليه بعين فيها العجب، كنا كل يوم تقريباً نراه، أدفع له، ورفيقي لا يظهر له آنة حمراء، لأنه يظن أنه محتال، فقلت له: أنت في الحج، والحسنات هنا أضعاف مضاعفة، تصدّق عن صحتك وعافيتك وأهلك، فقال: هذا الطَلاّب لوتّي، كنت أراقب قدميه في كل مرة كنت تدفع له فيها، فوجدتهما متسختان وسخ المشي، ولو كان كما يدعي، لا يستطيع المشي، لكانتا نظيفتين، لذا لا تجوز عليه الصدقة..وأنت بِبْصْرِك!



amood8@yahoo.com