ليست المرة الأولى، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، التي أواجه فيه نقداً بأن اللغة التي أستخدمها في هذه المساحة متعالية على القارئ العادي، وفي أفضل الأحوال أُتهم بأني أكتب بلغة صعبة وليست مفهومة. والحقيقة، أن أمراً كهذا يبدو محبطاً إلى درجة كبيرة كون الطبيعي أننا نكتب لنقول شيئا للقارئ، فأن تغيب الفكرة بسبب اللغة -لا بسبب تعارض القارئ معها- أمر يحتاج إلى مراجعة جدوى استخدام لغة أدبية مقابل التأثير المتوقع للفكرة على القارئ. ولذا وجدت أنه من المفيد وضع مستوى معين من التفسير قد يلزم لفهم حال المقام ومستوى ما يقال.
في البداية يجب أن نوضح أن كل الأعمال الأدبية والابداعية تهدف طوال الوقت إلى القول بفكرة تريد بها التأثير على المتلقي، وأن الفكرة الواحدة يمكن تصديرها بعشرات الأنواع من الأعمال الأدبية، بكل أشكالها المكتوبة، المنظومة منها كالشعر على سبيل المثال، أو المنثور كالقصة؛ وما يندرج منها أو يتفرع كأعمال مسرحية وسينمائية وإذاعية وأشكالها كالكوميديا والدراما وهكذا.. إذن فالأفكار موجودة دائماً وتقريباً تتكرر، بينما المختلف تماما هو طريقة عرضها وأساليب إعادة تصديرها للمتلقي. ولأن المتلقين مختلفون فيما بينهم لأسباب لا حصر لها -وهي حقيقة لا يختلف بشأنها اثنان- وُجدت هذه الأنواع المتباينة في الأساليب لتصل إلى المختلفين. وقد عرف الإنسان هذه الحقيقة منذ الأزل، وظهر ذلك جلياً في كل ما أنتجه البشر من أدب.
تختلف الأساليب بسبب اختلاف ذائقة الُمتلقي -وهي أحد أسباب اختلاف البشر-، ولكن أيضاً يختلف الأسلوب أو المقال بسبب اختلاف المقام، والمقصود بالمقام، ليس وضع وحال المتلقي فقط، وإنما أيضا نوع الجهة التي نقصدها كمتلقين للوصول إلى الفكرة أو المعرفة التي يقدمها المبدع. مثلا إذا قصدت شراء كتاب لديوان شعر فصيح، فما أتوقع أن أقرأه هو قصائد وأبيات مقفاة تخضع بطبيعة الحال إلى نظام دقيق من تنظيم المعاني وعدد الكلمات والثراء اللغوي؛ بينما سيكون محل استهجاني واستنكاري في حالة قراءتي في الكتاب نفسه مجموعة قصصية، مهما بلغت روعتها؛ والعكس صحيح، فلن أقبل أن أشتري كتابا مكتوبا عليه رواية، بينما كل ما فيه قصائد شعر، فجمالية العمل لا تكتمل إلا بتناسب الإطار الذي وضعت فيه.
هذا الإطار هو الذي يحدد أفق انتظار المتلقي؛ بمعنى أن شكل المقام، أو نوع الجهة المقصودة لتلقي الفكرة أو المعرفة، يكوّن أو ينشئ نوعا من الاستعداد الفكري لدي المتلقي، يجعله يتوقع ما سيتلقاه، ليس في تفاصيله، وإنما في نوعه العام؛ وهو استعداد يجعلنا نتوقع نوع اللغة وشكل عرضها ومستوى مترادفاتها. ولتسهيل الفكرة -ومن مثال حي- حين تفتح الصفحة الثقافية في صحيفة ما، وتعزم على قراءة زاوية فيها، بالتأكيد هناك استعداد فكري سابق للقراءة، يُمَكنك من استيعاب الإمكانات اللغوية المستخدمة، وهو استعداد فكري سيختلف بالتأكيد حين تعزم على قراءة زاوية ما في الملحق الرياضي أو ملحق المنوعات.


Als.almenhaly@admedia.ae