عندما تستدرج حرير الذاكرة، وتستدعي الخيوط الرفيعة الغائصة في الخضم، تأتيك رائحة القهوة المسائية “مقندة” بعبق اللواتي زخرفن حياة الناس بالثوب الرهيف والقلب الشفيف، وشغفن الأصياف حتى مالت عذوق النخل، ريانة مياسة. كانت بيوتهن من مزاج الناس الحالمين، المغتبطين، المرحبين، المحتفين بالجار ذي القربى والجار الجنب، وعابر السبيل و”اللافي” من المكان البعيد. قلوب خضراء، ونفوس مزدهرة بالحب وصدور تتسع لنجوم السماء وأقمارها وكواكبها، وعيون تشع ببريق البراءة، ونداوة الزمن الجميل. نساء بنات الرجال، ورجال من أصلاب تاريخ يعتد بنفسه ويفتخر، زرعوا المكان بالخيمة والعريش، واتسعت الأفنية بأثواب النساء وجلابيب الرجال، والتقاء فسيفساء تلون وجه النار، وترسم الصورة المثلى لعلاقات بنيت على الرحب والسعة، ففي الخيمة ينام الوالدان وصغارهما، وفي العريش يفترش الجميع، سفرة، القبول بالحياة كما هي دون تزييف أو تحريف أو مساحيق، تكدر ولا تغير من أصل التكوين. وينشأ الصغار على الاصطفاف جنباً بجنب، والوقوف كتفاً بكتف، والسير نحو المستقبل يداً بيد، فلا يضيق الصدر بالصدر، ولا تتكدر النفس من النفس، ولا تشمئز العين من العين.
اليوم، أفنية بسعة ملاعب الكرة، وقلوب بضيق ثقب إبرة، ورؤوس تدور وتفور وتخور، والأبواب مؤصدة، والنوافذ محكمة الإغلاق، وقد يمر عليك في شارع أو زقاق صديق قديم الدهر، فلا يهون عليه أن يلقي السلام، وإن تنازل عن شيء من كبريائه فإنه ينعق بمزمار سيارته ويمضي، وكأن شيئاً لم يحصل أو أنه لم يرك.
اليوم، الأشياء من حولك تتلون بألوان السيريالية، وتغمض جفنيها وتمضي في أسرار الغموض الى ما لا نهاية. لو فكر علماء النفس والاجتماع واجتمعوا على طاولة مستديرة لحل المعضلة، فلن يجدوا حلاً، لأن هؤلاء أنفسهم سيجدون أنفسهم غرباء عن بعضهم، ولا لغة تقرب بينهم، ولا قواسم مشتركة تجمعهم، لو فكر علماء الانثربولوجيا والجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ أن يضعوا حداً لهذا الاغتراب سيجدون الكرة الأرضية تستدير من تحت أقدامهم، وتولي الأدبار إلى غير رجعة، وسيرون كسوف الشمس وخسوف القمر، وتمدد التضاريس في مكان، وانكماشها في مكان، والذين كانوا هنا رحلوا إلى هناك، والذين هناك تركوا الأطلال وغابوا. وأشياء مدهشة، مفزعة أحياناً، تثير الحفيظة، وتدعك القلب بحصى الفقدان، وتفرك الجفن بنحاس الخسران، لأن الذي مضى لن يعود، ولا يتحسر على الماضي إلا كل من وجد نفسه يقف في منتصف الطريق، لا هو في الرئة الشمال، ولا هو في الرئة الجنوب، هو ما بين بين، تحت العجلة وفوق الأرض، لا يرى ولا يسمع، لأنه يرى أشياء لا يراها غيره، ويسمع أصواتاً لا تسمعها سوى أذنيه، ويظل هكذا فينظر الى الأفنية الواسعة، وقلبه متمسك بجريد الأمس، مستظلاً “بخوصه”.


marafea@emi.ae