شكا الفريق التلفزيوني من صعوبة التعامل مع هذا الرجل. فهو لا يريد أن يكون في الصورة، لا يريد أن يتحرك أمام الكاميرا، لا يريد أن يكتب تحت رقابتها، لا يريد أن يستجيب لرغباتها، علما أن البرنامج الوثائقي مخصص له. ولكن، في الأخير، احتل خوان غويتيسولو، الإسباني، المراكشي، العربي، العالم ثالثي، الشاشة بحياء صوته وقوة أفكاره. منذ أن ذاع اسم صاحب “حصار الحصارات”، بدا وكأنه يعمل من خلف ستار. كانت كتبه تسبق شخصه إلى القارئ. لم يقم يوما بحملة علاقات عامة للترويج لنفسه. لم يحشر جسده الضئيل لكي يترأس الوفود. اكتفى بمقعده الدائم في ذلك المقهى القديم المطل على ساحة جامع الفناء بمدينة مراكش، التي يتقن عامية أهلها، ويعيش في نسيج حياتهم اليومية. من أجل مثل هؤلاء الناس، كان يكتب نصوصه الإبداعية، وتحقيقاته الصحافية من ساحات الحروب الظالمة، وليس من أجل الجوائز الرسمية التي رفضها. لا تؤرق غويتيسولو مشكلة الإنتماء أو أزمة الهوية بمعناها المتداول. يقول: “لا أعتبر نفسي جزءا من المجتمع الإسباني، لأني لا أشاركه قيمه. فنتيجة لإقامتي الدائمة في الخارج عوّضت الأرض بالثقافة”. يمكن أن تعتبره كاتبا، بوسنيا وهو يكتب مأساة كوسوفو المثقلة بالدماء. وهو أيضا كاتب فلسطيني تحتشد ذاكرته بحجارة الأطفال وصواريخ “الأباتشي”، التي عايشها منذ الانتفاضة الأولى إلى الحصارات المتمادية. وهو كذلك كاتب عراقي يتمثل قهر الاحتلال المتسربل بمقولات الديمقراطية والمدنية. وقبل ذلك وبعده، هو مهاجر أفريقي يحمله مركب متداع من براثن الجوع في بلاده لكي يتلقفه بحر قاهر أو شرطي ينتظر عند شواطئ أوروبا. يبدو غويتيسولو في كتاباته، وكأنه حفّار، يواظب عل حفر أخاديد في جدار المركزية الأوروبية، في تجلياتها المختلفة. يعرف أن نجاحه ـ مع غيره ـ في تلك المهمة يكفي لإعادة تصويب التفكير الأوروبي نحو الشرق، من خلال إعادة إحياء نظرية الجسر بين حضارتين. وهو ما فصّله في محاضرة دمشقية منذ أشهر بعنوان “شرقنا القريب”. تحدث غويتيسولو عن ظاهرة التلقيح الثقافية واللغوية الموجودة منذ بدء الحضارة في حوض المتوسط، من الشرق الى الغرب، ومن الشمال الى الجنوب، وبالعكس عبر اتجاهات الوردة الملاحية الاثنين والثلاثين. واستشهد بحضور “ألف ليلة وليلة” في الذائقة الأوروبية، والطابع المسلم للأدب القشتالي، وتمثلات “الكوميديا الإلهية”. لكن رؤية غويتيسولو عن الجسر ودوره، لا تعني أنه يدعو إلى نوع من الصيغ التوفيقية، تعفي القاتل وترضي الضحية. فالجسر، هو وسيلة عبور وتفاعل، وليس وصفة اعتذار ومسامحة. ومن هنا فإن نقده للفكر الاستعماري الأوروبي هو نقد تفكيكي، يدين ما يسميه “العماء التاريخي” في بلاده إسبانيا وفي أوروبا عموما، حيال الشرق العربي والإسلامي، والذي غذته كتابات عنصرية وعدوانية طيلة قرون. كان يمكن لخوان غويتيسولو، أن يبقي آراءه على صفحات كتبه، ولكنه آثر اتخاذ أشد المواقف سطوعا، بانتقاله للعيش في المغرب.. وهو موقف فلسفي، قبل أن يكون إجراء عمليا. ويبدو أن عناية ما قد دفعته لكي يكون حيث هو في الوقت المناسب، فيقف بوجه هجمة استثمارية لنزع الطابع التاريخي عن ساحة جامع الفناء، ويقود حملة دولية ناجحة لضمها إلى لائحة (اليونيسكو) للتراث العالمي. خوان غويتيسولو، الذي يحمل عضوية شرفية في اتحاد كتاب المغرب، يستحق أن يكون مواطن شرف في كل بلد عربي.. فيصبح المواطن “العربي” الأول الذي يحمل هذه الصفة. adelk58@hotmail.com