يختار عبده وازن، لحظة الخطر، لحظة الإطلالة أو الوقوف على حافة الهاوية التي لا قرار لها، حيث الذهاب في غيبوبة الجراحة والنفق المغلق، إلا من نقطة ضوء تائهة في خضّم المسافة والضباب، الذي يذهب نحوه الكائن ويتوغلّ في حناياه المظلمة وردهاته القاتمة الرطبة، وهو لا يعرف إن كان سيعود منه أو أن الرحلة من غير عودة هذه المرّة. يختار وازن أو تختاره اللحظة المحتشدة بكل ما هو حِديّ وغائر في الذاكرة التي تتداعى، وهي تغور في ظلام العمليّة الجراحية وخدرها ومشارطها، تتداعى الذاكرة نحو فضاءاتها البعيدة الموغلة في البعد، كأنما تترحّل وسط الغيوم القاتمة والبروق، بين كواكب وأجرام تشبه تلك التي ذهب الى بعضها الأمير الصغير، وإن كان مجالها أرض وبشر بخصائص معينة. وعلى نحو ما تذّكر ببعض أطياف السيرة “الفللينية” وفيلم بوب فوس “كل هذا الجاز”. حيث ملاك الموت يجتاز النفق على شكل امرأة جميلة تبتسم وتوشك على العناق. لكن الطفل اللبناني القرين، الذي يستدعيه صاحبه وهو في غيبوبة النشوة والألم ليسندَ وجوده المهدد بالتلاشي والاندثار، يبحر وسط شظايا وأثلام ذاكرة لا تقل ألماً وفداحة عن معطيات مأساة اللحظة الجراحية التي تفجّر كل هذه الأحمال من الذكريات المُستعادة، غير أن الطفولة المندفعة والجانحة لم تكن تعترف، وهي في بعض جوانبها نضِرة ومشرقة، مثل اللحظات الأولى لاختبار الحب والجنس والصداقة، البحر والصورة السينمائية والتلفزيونية.. لكن الكتاب لا يلبث أن يتلَّبد بغيوم الفجائع والغيابات بدءا بغياب الأب الذي ترك بصمة ألمه العميق على الطفل (اليتيم).. ذلك اليتم الجارح في بعده المادي الشخصي أو في أبعاده الوجوديّة حيث الجميع يتامى بما في ذلك السيد المسيح الأب، وفق حلم كابوسي لجان بول، حين تجمع حوله أطفال موتى “يتامى كلنا يتامى يا أبنائي”. يذهب عبده وازن وراء ذاكرته المتشظيّة في كل الأرجاء والمتاهات، من الحرب اللبنانية التي كسرت كل الأطر الجاهزة والقناعات على الأقل لدى الفرد الذي وجد نفسه وأحلامه مقذوفاً في بريّة العبث والدم.. تتداعى المواضيع الأثيرة الى قلب عبده وازن الكبير، لنتعرف من خلال هذه الرحلة في تخوم الذاكرة على هواجسها الأولى، ونبضها الجنيني، الذي بدأ مع الطفولة الباكرة، مثل الدين الذي ينعته بالغريزة الدينيّة، أو الإيمان، قبل أن تكون هناك أديان، كضرورة روحية أمام رعب الخواء. لكن ليس من غير قلق وبحث يمتد بظلاله، الى كافة المواضيع والمسلَّمات التي هي على شاكلة الدين وغموضه وهواجسه، كالموت والزمن والانتحار، حيث يختار انتحار الحياة الأقسى، الأمومة الأكثر لطفاً وحناناً من الأبوة، الملائكة وعمر الثلاثين... الخ. والليل، الليل الذي يبجلّه وازن، “من الحب الأول تصالحتُ مع الليل وصرت أحبه وأنتظره كل ليلة لا سيما في الصيف صرت أحب النافذة ولم أكن أقدر على النوم في غرفة لا نافذة لها، النافذة شقيقة الليل”.