تركت مطار لاجوارديا، وركبت طائرة ال”نورث وست” المتجهة إلى مدينة شارلوت، عاصمة ولاية كارولينا الشمالية التي كان صديقي أحمد شمس يعمل في إحدى جامعاتها، وفي الطائرة ركبت إلى جانب عجوز أخرى، اشتعل رأسها شيبا، وما إن بدأت الطائرة في الصعود، وأخذ اتجاهها صوب الجنوب إلا وأخذت تتمتم بصوت مسموع: “رادا كرشنا كرشنا رادا”، وظلت تكرر الاسم كأنه ترنيمة أو نوع من الصلاة، وبعد أن اعتدلت الطائرة في مسارها واستقرت، التفتت إليّ، وسبقت بالتحية التي رددت عليها بأحسن منها، وتعارفنا، الأمر الذي شجعني أن أسألها عن هذه الترنيمة التي كانت ترددها، فقالت إنها تصلي لإلهها الهندوسي، فسألتها: وهل أنت هندية؟ فصرخت: لا، ولكني معجبة بالآلهة الهندية وبالإله كرشنا الذي يقود عباده وسالكي طريقه إلى نوع من السعادة الروحية. وقالت لي: إنني يمكن أن أترنم معها بالجملة التي ترددها، وسوف أشعر بالراحة تغمرني بعد اندماجي في التعزيم ومحاولة إفراغ قلبي وعقلي من كل شيء حتى يكونا على استعداد لقبول الفرح المقبل. وأخذت السيدة على قدر عقلها، وظللت أردد معها لبعض الوقت مجاملا، إلى أن مللت فصمتّ، وعندئذ، سألتني السيدة: هل شعرت بالراحة والأمان؟ فكذبت وقلت: نعم. ولم تتركني السيدة في حالي، فأخذت تحبب إليّ الديانات والمعتقدات الهندية لكي أعرفها، وظللت على حالي من مجاملة السيدة، لكن لم يفتني أن أعرف منها الكثير عن حرية الاعتقاد في المجتمع الأميركي، وحق كل مجموعة اعتقادية أن تمارس شعائر العبادة التي تنتسب إليها. وأعتقد أن هذا كان درسي الأول في معرفة أن الدولة المدنية، كالولايات المتحدة، مسؤولة بحكم الدستور عن حماية الأديان واحترام معتقدات مواطنيها مهما كانت. وكانت هذه المسألة حاسمة جدا، وصارمة جدا، لا تهاون فيها، ولهذا كانت التعددية العرقية والدينية هي أساس المجتمع الأميركي الذي يقوم على التنوع العرقي الخلاق، وربما كانت هذه معجزة المجتمع الأميركي وسر إنجازه وتقدمه الدائم، فلا تمييز بين المواطنين على أساس من الدين أو الجنس أو العقيدة أو حتى اللون، خصوصا بعد أن قام جون كنيدي بإنجازه العظيم في مجال الحقوق المدنية، وهو المجال الذي جعل من التمييز تهمة يحاسب عليها القانون، ولا يسمح بها في حال من الأحوال. وليس الأمر أمر نصوص قانونية سجينة كتب القانون، وإنما في أعراف وعادات وقيم أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة الناس ونسقهم القيمي على السواء، ولذلك ستجد المعابد البوذية في أحياء ذوي الأصل الصيني أو الياباني (شايناتاون)، ومعابد هندية مصغرة، ومساجد وكنائس ومعابد يهودية. فأميركا بلد التنوع التي بنت معجزتها الحديثة على الإفادة من كل فاعل اجتماعي في نسيجها المتعدد الأعراق والأجناس والديانات.