من يعمده الإعلام نجماً ويرسم حول رأسه هالة المجد، والشهرة، ويطلقه في سماوات الناس علماً ومهوى أفئدة، يصير حتماً مثار اهتمام ومتابعة واحتفاء، خاصة من هؤلاء البسطاء الطيبين الذين يبهرهم الضوء وتغريهم الصورة الجميلة اللامعة، وكلنا، حسب ظني، سواء كنا مثقفين أو غير مثقفين، قراء نهمون ومتابعون لعالم الكتب والنتاج الفكري، أو حتى أولئك الذين لا يقرأون بالإصرار ذاته، كلنا نعجب بالمثقفين والأدباء الكبار ونصورهم على أنهم أصحاب مبادئ ومثل ورؤى تختلف عن بقية خلق الله، إنهم في اعتقادنا دائماً أصحاب الوعي العالي، والنضج الكافي الذي يؤهلهم ليتحدثوا باسمنا، ويحملوا قضايانا ويعبروا عن أحلامنا، ويرفعوا باسمنا خطابات الرفض والتغيير ومناشير العشق والثورة والإصلاح.
هؤلاء المثقفون ليسوا كتاباً فقط، إنهم شعراء وقادة رأي عبر الصحف ووسائل الإعلام، إنهم شعراء ورسامون وصحفيون وأدباء وسينمائيون وممثلون وقادة رأي وطيف كبير ممن راكموا لأنفسهم ذخيرة هائلة من المعرفة والاطلاع، وصقلوا تجربتهم الإنسانية على محكات ليست سهلة واجهوا من خلالها الكثير من التحديات، فبعضهم تحمّل الغربة منفياً بسبب رأي لم يحتمله أصحاب السلطة في وطنه، وبعضهم ذاق مرارات السجن والتعذيب، وكثير منهم مر في نفق الفقر والعوز لأنه أصر على رأيه ومعتقده.
هذه هي صورة المثقف في خيالنا جميعاً، لكنْ هناك من له رأي آخر تماماً، رأي على النقيض، فهو يصور المثقفين الكبار من أصحاب الوزن العالمي بشكل يخرجهم تماماً من دائرة القيم والمثاليات ليضعهم في دوائر الشبهات، إنه الناقد والكاتب في صحيفة الأوبزيرفر البريطانية (بول جونسون) الذي يقدم في كتابه (المثقفون) قائمة من كبار الأدباء والشعراء والمفكرين عبر مواقفهم الحقيقية، وعبر سلوكهم الحياتي خارج دوائر الادعاءات الزائفة التي حاولوا إقناع الناس بها عبر الكتب والأشعار والنظريات وتصريحات لقاءاتهم الصحفية!!
بعد أن نكمل القراءة وتصيبنا صدمة مما نقرأه بالذهول يدفعنا “بول جونسون” نطرح سؤال السيد المسيح عليه السلام حين وجد أولئك الرجال من قومه متجمعين لقتل المرأة الزانية، إذ فاجأهم بسؤاله: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر!! فمن منا بلا خطيئة ؟ ومن منا بلا تناقض؟ ومن هم المبرأون من العيوب والنقائص في هذه الحياة ؟ أهم الملائكة ؟ فهل نحن ملائكة ؟ أهم الأنبياء؟ فهل المثقفون والمفكرون أنبياء ؟
بعضنا يتساءل هكذا، لتبرئة ساحة الأدباء والمفكرين حين تسلط عليهم الأضواء الكاشفة فتظهر سوءات أفكارهم، وتناقضهم، وبعضنا، يعتقد أن مهمة الثقافة ورسائلها الأساسية تنحصر في تشكيل الوعي العام والرأي العام والوجدان الجمعي لأفراد المجتمع، وأن هذه المهمة ليست سهلة وليست هدفا ممكناً لكائن من كان، وأن من يتصدى لها يجب أن يكون بحجم أهميتها، من هنا تأتي محاكمة المثقف والمطالبة بالتزامه!
لقد سرد بول جونسون في كتابه قائمة طويلة بأسماء عالمية، أظهرهم بشكل مأساوي فعلاً، فهو قدمهم على أنهم ليسوا سوى منافقين، متناقضين قساة، بخلاء، متعجرفين، ووصل ببعضهم حد أن كانوا خونة وعملاء سريين للشرطة ضد أصدقائهم مثل كارل ماركس صاحب النظرية الماركسية وأكبر المدافعين عن الطبقة الكادحة، ومثل جان جاك روسو الذي تحدث عن آلام البشر باكياً، فإذا به لم يعترف يوماً بأبنائه العديدين غير الشرعيين مثلاً، وغيرهم كثير !!


ayya-222@hotmail.com