شعرة مقطوعة تربط الشاعر بالجنون وتشده ليرفس كرسي الانتظار ويخرج من غرفة الصمت والغبار إلى مسرح الحياة الواسعة بحثاً عن الحرية التي سيظل يطاردها حافيا شقيا مدى الحياة. وفي نهاية الطريق قد لا يجدها، لكنه سيجد اللذة مخلوطة بالألم والمتعة المغلفة بالعذاب. ومن تناقضات المعنى وتقلباته المريبة ومن تصادم الأضداد وتجاذباتها سيكتب الشاعر عن الحياة باعتبارها سفينة مثقوبة في بحر هائج، والإنسان لكي يتخلص من ضجر الوجود عليه أن يشد حبال الترحال نحو الجمال ولا شيء بعده. والجمال ليس منطقة بعيدة نصل إليها وندخلها كما ندخل في الحلم. إنما هو فن وقدرة على قراءة تفاصيل الحياة الصغيرة والنبش بين المهملات لاصطياد الشوارد في اللغة والأشياء والمحسوسات وتحويلها إلى علامات ورموز حية ونابضة. وتبدأ مهمة الشاعر عندما يجذبه الجنون من جهة ويسحبه العقل من جهة ثانية فتضطرب في بحر وعيه موجات الكلام وتتداخل الكلمات مع بعضها لتتخذ معاني جديدة خالعة ثوبها الأول الذي تنام به في القواميس وتلبس ثوبا زاهيا جديدا يخرجها الى الحياة. والشاعر في غيبوبة الصفاء يرى الماضي والمستقبل يتقابلان وجها لوجه فوق لسانه فتنبع القصيدة وتنساب في قدرها الجديد على الورق وتظل تنتظر إلى أن يأتي القارئ الحقيقي ليخطفها من نومة الفراغ ويتشبع مشغوفا بها وبسحرها الكامل. والجنون هو محرك الروعة وصانع الجمال. والشاعر المجنون هو الذي ينحت في جمود الكون صورا يعجز أعقل العقلاء عن التفكير فيها. والعباقرة العظماء في التاريخ الذين اكتشفوا القوانين والأبعاد والقياسات الكونية، إنما كانوا مجانين حقا لأنهم لم يستسلموا للمنطق العادي واختاروا العناد والقفز فوق أسوار اليأس للوصول إلى اكتشافاتهم والمئات منهم ماتوا وهم يعبرون طريق الجنون الجميل. في حياتنا اليومية نحتاج إلى الجنون دائما لأنه يمدنا بطاقة الحياة، وبدلا من الاستيقاظ بكسل كما يفعل الموتى، يدفعنا الجنون إلى القفز من السرير والضحك أمام المرايا واللعب مع الأطفال والمرح معهم بكل حرية. وفي كراسي الوظيفة والروتين يفتح لنا الجنون أبوابا للأفكار الحرة والمبدعة ويستلنا من شباك النميمة القذرة إلى نعيم التواصل الجميل مع الناس لنظل هكذا نتأرجح من غصن إلى غصن قابضين على روعة الحياة في كل لحظة، ولا يهم إن انكسر بنا الغصن أحيانا وسقطنا لأن درس الجنون فيه الكثير من لحظات السقوط التي تزيدنا صلابة وألقا. إلى أين تركض أيها المجنون الوديان البعيدة لا يدخلها إلا الوحش قافزا وراء الفراشة مختفيا في الهلاك الجميل akhozam@yahoo.com