كيف تتجسد المشاعر الإبداعية والانفعالات الداخلية للمبدع، وتخرج من الداخل إلى الخارج، وتتحول إلى هذا العمل الإبداعي أو ذاك؟ الإجابة هي الأداة، أي الوسيلة، الوسيط الذي تتحول به وفيه المشاعر والانفعالات المعنوية إلى إبداعات ملموسة، يراها أو يقرؤها أو يطالعها الجميع، فيجدون فيها من متعة الفن ما يدعم الإحساس الجمالي، ويرتقي بالإنسان في مراتب المعرفة بدنيا المشاعر والعواطف. وقد توصل إلى هذه الإجابة فيلسوف ألماني من فلاسفة الفن هو ليسنج، وقد كتب كتاباً شهيراً يعرفه كل دارسي فلسفة الفن وأساتذته، وكان أول من هداني إلى معرفة هذا الكتاب أستاذتي الدكتورة سهير القلماوي، فى محاضراتها عن النقد الأدبي، وقد حدثتنا عن الفيلسوف ليسنج وكتابه “لأكون”، وعرفت أن لاؤوكون هذا كان يشغل مرتبة دينية فى خدمة آلهة الأساطير اليونانية القديمة، وأنه عصى الآلهة بأحد أفعاله، أو لعله أفشى سرا من أسراره، فعاقبته الآلهة بأن سلّطت عليه حيّات هائلة، التفت حوله هو وبنيه، وظلت الحيّات تنهش في الجميع، عقابا للأب لاؤوكون على ما اقترف من جرم. وقد تناولت أعمال إبداعية عديدة عذاب هذا الأب المكلوم الذي لم يتسبب في إيذاء نفسه فحسب، بل إيذاء بنيه في الوقت نفسه، وتحولت واقعة الأفاعي الناهشة المحيطة به وبنيه إلى موضوع لقصائد ولوحات وتماثيل، ومن أبرزها تمثال رائع، رأيته في متحف أثينا باليونان. وأوضحت لنا المرحومة سهير القلماوي أن فيلسوف الفن ليسنج شرح كيف تم التعبير عن الموضوع الواحد، مأساة لاؤوكون، بطرائق متعددة في القصائد الشعرية والسرد الملحمي واللوحات والتماثيل، فلاحظت أن كل نوع من أنواع الفن يعبر عن الموضوع الواحد بطريقة مختلفة، ترجع إلى اختلاف أداته، فالشعر والسرد الملحمي عبرّا بالكلمة واللوحات باللون والنحت بالحجر. وهكذا أدرك أن اختلاف الأنواع الفنية، يرجع إلى اختلاف الأداة، وأن الأداة، في حالة كل نوع، هي المتحكمة في تقديم الموضوع، فالكلمات تتيح تسجيل التتابع الزمني في العلاقة بالموضوع، فتحكي عن التعاقب التاريخي لمأساة لاؤوكون، ويمكن أن تصف الأبعاد المكانية عن طريق الوصف. وقد قال البلاغيون العرب إن أفضل الوصف ما قلب السمع بصرا، ويعنى ذلك أن الأدب بحكم أداته التي هي اللغة، يتيح لقارئه إيحاءات زمانية مكانية على السواء، ولذلك اختلف الأدب عن الموسيقى التي تعطي لسامعها إيحاءات زمنية، فهي تتابعات نغمية ذات طبيعة إيقاعية، ممتدة في الزمن وعبر الزمن، أما الرسم فهو يقدم صورا بصرية، كالنحت، فلا يتيح لنا سوى أن نرى ملمحًا واحدًا، أعني لحظة واحدة من الزمن. وقد بلغ تعلقي بكتاب لاؤوكون مبلغه، فبحثت عنه بعد أن تخرجت بسنوات، وبعد أن ذهبت إلى الولايات المتحدة، فعثرت عليه في ترجمة إنجليزية، واقتنيته في فرحة بالحصول عليه، ومرّت السنوات وعندما أنشأت المركز القومي للترجمة طلبت من إحدى المتخصصات في الأدب الألماني ترجمة الكتاب، وفرحت بالترجمة التي أرجو أن يكون قد قرأها كل مهتم بموضوع “الأداة” في الفنون.