ما زالت الحارة التي تقطن النفوس تزخر بالوجوه وتحيا بالأحلام، وما زال حمود يسير بخطوات يشوبها البطء، مازال ينظر إلى الأشياء من حوله بحتمية المتأمل وبعفوية الصادق، وبغرابة سنوات طوال، وهو يُشاهد بين ثنايا المكان، بحضور دائم، ما عدا حالات الاختفاء التي تعتريه ما بين فينة وأخرى.. تبدده الحياة فلا يفد إلى زاوية الحراك اليومي. حمود يزاول نشاطه سيراً على الأقدام، كما لو يتفقد حال الحارة ووجوه قاطنيها، ويتلمس بدقة حال البيوت، ينظر إلى الوجوه فكأنه على صلة معها، يحاورها باعتناء شديد، يتبادل معها الحكايات والانحناءات والفصول الحياتية ولكن بصمت، لهم صور يختزلها بذاكرته فلا تمحى. مازالت الحارة على هدوئها، ومازال حمود يفضي بالملامح نفسها، لم يبتدره تحول السنوات، ولم يهرم إلا قليلا، سائر أهل الحارة كبروا وتبددت وجوهم، وظل وجهه يحمل تعرجات زمن لا ينسى، قصر قامته تميزه، وثوبه المهندم بعشوائية، مازال يعمم القترة ويكممها فوق رأسه على طريقة البحارة القدماء، لم يعد أحد يعرفه، إلا قلة ممن عهده يسير ببطء ما بين بيته بالزعاب والجمعية التعاونية، يمر بحذر عبر الطريق الفاصل، وكأنه يعلم ذلك التهور المعشش في عقول بعض السائقين، وما تعتريهم من سرعات مجنونة، يظل واقفا على الرصيف المطلي بلون السنوات، ينظر إلى رتل السيارات بتعمق، كأنها تستهويه، ويروى عنه بأنه ترجم عشقه لبعض منها، فانتهز ذات مرة ترجل السائق من سيارته، فتسلل إليها، محركا المقود يمينا ويسارا. لربما استشعر ضجيجها فأراد كبح جماحها. حمود ذو الملمح الإنساني البسيط يسكنه الحب لسائر البشر، وهدوؤه هبة ربانية أمام تحولات المدينة وتغيرات الحارة، فالوجوه تذهب وتعود وهو مازال يتقلد طريقه المعتاد، البيوت تعلو وتهبط وتغير من جلدتها، فمن شواهد الطفولة لم يتبق سوى الجمعية التعاونية وبعض البيوت القديمة، وتلك المحال الصغيرة المجاورة، بقية باقية مثل مطعم شاهين ومصبغة الزعاب ومطعم كنتاكي. باتت كلها أقرب للشحوب والترهل، همشها دوران الزمن، لكنها مازالت ضمن سياق الحراك اليومي لهذا المحور أو الزاوية التي تضيئها الخطوات من كل حدب وصوب. هي اللحظات وإثارتها حين تسكن وتفضي بجمالية يكتسبها المكان كلما آلف الوجوه وتعاطى سنوات الدهر، فالأماكن لا تشيخ بقدر ما تتألق وتتقلد سمات تتراكم عبر الموروث الإنساني. تحت مجهر الشمس بانت المباني الشاهقة وعلت ناطحات السحب، لتلف الحارة بردائها وتنسقها باحتضان آخر يدل على الزحف المتأصل بالعلو، بينما ظلت وجوه الحارة غير معنية، كما رحل البحر ولم يعد يرى من سطوح المباني، ورحلت خلفه نسمة هواء كان يرسلها لتداعب الوجوه، لم تعد المساحات تفضي بالشرود الذي يحتاجه العقل، ولم يعد ذلك المدى لتقرأ تفاصيله الأعين حين تصحو من أحلامها. لكن ما زال حمود وحده ينسج حضوره المتيم بفأل الصباح، ومازالت الحارة تزخر بالوجوه المكسوة بطابعها وبخاصيتها.