في زحمة الناس، وصولة الضجيج، وجولة العجيج، نحتاج إلى الدائرة الهادئة، الساكنة، المطمئنة، نحتاج إلى أنفسنا، وإلى أرواحنا المخطوفة على أجنحة الهدير والزئير، والنفير والصرير، نحتاج إليها قليلاً كي نجلسها على ثوب الحرير، عند القادر القدير الذي اسمه الحب.. فالشارع المكفهر، المنصهر، تحت رحى الظمأ البشري، والوجوه المصفرَّة، والعيون الغائرة، والجباه المغبرَّة، والحواجب المغضنة، والمركبات المتلاطمة، المتزاحمة، المتفاقمة، والمحال التي تبدو وكأنها تستقبل يوم الحشر والنشر، والأبواق المتصاعدة، كالرعد الحانق، والدخان المتسلق جباه الفضاء، مطارداً أوجه الناس، ملاحقاً أجهزة التنفس، وهذا الصعود اليومي، نحو غايات مبهمة، ونهايات معتمة، وبدايات تخرج من قمقم الفزع، كل ذلك يجعلنا نحتاج إلى أنفسنا، نلملمها، ونجمع خشاشها، وهشيمها، وانكساراتها وخساراتها، كل ذلك يجعلنا مضطرين إلى أن نفكر بأنفسنا، كي لا يتسرب الماء العذب من بين الأصابع، كي لا تهرب المزن من بطن السماء، وتسقط بلا جدوى على الأرض الجدب.. نحتاج إلى أنفسنا، لأن اتساع رقعة الفراغ الداخلي، يخلق اختلالاً في طبقة الأوزون النفسية، يجعل الفكرة بلا قاع، ولا ذراع، فلا تستقر ولا تصل، نحتاج إلى أنفسنا، كي نمشي في الطريق، متماسكين متضامنين مع الشارع، ومع من يسيرون على يبابه، نحتاج إلى أنفسنا كي نعيد النسيج إلى مكانه، ونستعيد الأحلام التي هربت فزعاً، وذعراً، والأيام التي غربت سهواً، إثر اللغط والغلط، والشطط، نحتاج إلى أنفسنا لكي نعيد ترتيب التفاصيل، والأشياء الصغيرة التي تضاءلت إلى حد التلاشي.
نحتاج إلى أنفسنا لكي نحفظ الود، ما بين الوالد والولد، والزوج والزوجة، والجار وجاره، والصديق وصديقه، والمحب وحبيبه، والصغير والكبير، والغني والفقير، والسائل وابن السبيل، والضرير والشريد.. نحتاج إلى أنفسنا لمنع هدر الضمير، وضياع المسير، وفوات الزمان والمكان، وخذلان الإنسان.. نحتاج إلى أنفسنا كي لا ننهر فقيراً، أو نحتقر ضريراً، أو نقسو على خادمة، أو نمطَّ بوزاً في وجه محتاج، أو نجاهر بتعالينا على موظف بسيط، أو نغادر منازل الألفة، مع من نعتقد أنه أقل شأناً ووظيفة، ومكانة اجتماعية. نحتاج إلى أنفسنا، كي نقهر هذه الذات الأمّارة، ونجلدها إلى حد اليقظة والانتباه، إلى أن الله حق.. نحتاج إلى أنفسنا، لكي نحترم الآخر أياً كان، وأياً كانت جنسيته أو لونه أو دينه، فالناس سواسية كأسنان المشط.. نحتاج إلى أنفسنا، كي نقول لها، كفى، ونخفف من عواهن الدهر، وما فعلته الشوائب والخرائب، والمصائب.. نحتاج إلى أنفسنا كي نلجمها، ونحجمها، ونكظمها، من أن تفوه بما يحزن آخر أو يكسر سائلاً، أو يقضي على أمل طموح جموح.
نحتاج إلى أنفسنا، كي نشذبها ونهذبها، ونؤدبها حتى تصير ماء رقراقاً.



marafea@emi.ae