قرأت الكثير في عطلة آخر الأسبوع المنصرم، قصاصات صحف، مواقع إلكترونية، سير ذاتية متفرقة، كنت أقرأ في اتجاه فكرة محددة سيطرت عليّ منذ انتهيت من قراءة القوس والفراشة للمغربي محمد الأشعري، الفكرة هي علاقة الأم تحديداً بابنها المبدع، ففي الرواية تتقاطع وتضطرب شخصية يوسف الصحفي الشاب المتحدر من أب مغربي أمازيغي وأم ألمانية، حيث يظل مصلوباً طيلة حياته على فكرة أن والدته لم تنتحر كما ادعى والده، بل إنه هو من قتلها لأنه لم يستطع أن يحبها يوماً، فكانت الأم في الرواية هي الظل والخلفية والمحرك الذي لم يغب لحظة عن أحداثها.
قرأت عناوين كثيرة، مثل ما كتب أحد النقاد قائلاً: «... أمي نهر هادر من الشعر، لها عند كل قنديل قول، وعند كل اشتغال مثل يشتعل. هكذا قربتني لغتها العريضة من جمال اللغة وخيالاتها...»، هذا ما كتبه الناقد البحريني جعفر حسن تحديداً في جريدة الوقت، أما آخر فكتب يقول: «واستمرت أمي في ممارسة طقسها السنوي بحرق كتبي وإلقائها في البحر....»، كانت تفعل ذلك من محبة لا أكثر.
لقد كانت والدته تخشى عليه من غواية القراءة المنحرفة كما تسميها، حيث انضم بسبب هذه القراءات الغريبة لحركات سياسية جعلته مطارداً من قبل أجهزة الأمن في بلاده، لذلك كانت أمه تلقي بكل الكتب التي يحضرها معه من الخارج في البحر بمساعدة إخوانه الصغار، حتى لا يقبض عليه متلبساً بجريمة قراءة ما لا تريده السلطة!
أما الكاتب التركي الساخر، فكتب إهداء لوالدته في أول صفحات كتابه «هكذا أتينا إلى الحياة»، أمي يا أجمل الأمهات.. تزوجت في الثالثة عشرة، وأغمضت عينيك للحياة قبل أن تعيشي، أنا مدين لك، مدين لهذا القلب الذي يتفجر بالحب، لا أملك حتى صورتك، لأن التصوير كان يعد جرماً، لم تري فيلماً سينمائياً ولا مسرحية، كان بيتك فارغاً من كل شيء، لا كهرباء ولا مدفأة ولا ماء ولا غاز ولا أريكة للجلوس، لم تتعلمي القراءة ولا الكتابة والحساب، رأيت العالم من وراء الحجاب الأسود، وفارقت الحياة وأنت في ريعان الصبا، لم تفرحي في حياتك، لكن الأمهات لن يمتن بعد الآن قبل أن يعشن حياتهن، هكذا أتينا للحياة ولن نفارقها بإرادتنا...».
رواية «الأم» للروائي الروسي مكسيم غوركي، قلبت حياة كثير من شباب العالم في الستينيات من القرن العشرين، وفجرت فيهم ثورات التغيير؛ لأنها تحدثت بعمق منقطع النظير عن الحرمان والفقر والجوع من خلال حكاية الأم، صحيح أن شباب اليوم قد فجروا ثورات أكثر نجاحاً دون أن يعرفوا الطريق لهذه الرواية، لكن ذلك يعود بالدرجة الأولى لوجود قافلة من الأمهات الحقيقيات اللواتي عانين بصمت فائق التحمل والمرارة، وأمام أعين هؤلاء الشباب الذين ألقوا بأنظمة كاملة إلى العدم لأجل دموع هؤلاء الأمهات الجميلات.
تظل الأم محرك الحياة، وباعثها، تظل الخيمة في صحراء الشجن، والمعطف في برد العمر، وبئر الماء في نهارات الظمأ الطويل، تظل الأم هي الأم للمبدع وغير المبدع، تظل حالة عصية على الشرح والتفسير، لا يفسرها إلا الخالق حين ينصبها آية من آيات رحمته على الأرض.


ayya-222@hotmail.com