في يوم عيد.. خرجت نرجس منحنية كعادتها تتبع ظل جدار منزلهم، كانت رائحة الحناء في تعرق يدها كرائحة أعواد الجنة، لعبت تحت ظل شجرة قريبة، ونسيت نعليها، ثم تذكرتهما، وذهبت غير حافية تتهادى صوب دكان البائع الهندي، ولأول مرة تشعر بأنوثتها المبكرة، وأن عيني ذئب تتبعانها، تعدان خطواتها غير المكتملة، تقتربان لملامسة جسدها المنتفض، برّقت فيه عينا نرجس الزرقاوان، وكادتا تبكيان بدموع لم تكن حاضرة، كغيمة سماوية بعيدة وواعدة، وصراخها كاد يسبقها، كانت خطوات الذئب أسرع، ورائحته تشربها رئتاها، شرقت بالفزع، ولاذت بجدار المسجد، وجلست متكومة على خوفها، وكادت أن تغيب في صحوة التوحد.
رفعت رأسها، بدأ غائماً في عينيها، وحين استقر كملمح هلامي، مد لها يداً مشعرة، وقطعة نقدية معدنية، تكومت واضعة يديها كطوق حولها، طالعته بعينيها المغرورقتين بماء أزرق كنف من سماء بارد، وحين مال قليلاً حثت في وجهه تراباً بقدر ما تسمح به اليد الصغيرة، وركضت داخلة المسجد، تراءى لها يتوضأ، ويبلل لحيته السوداء الطويلة كجناح طير مرسل، خرجت تراءى لها قدام باب المسجد يسبّح، لاذت بشجرتها وظلها المطمئن، تراءى لها جالساً تحتها يقرأ فيما تيسر له من قصار السور، ركضت للبيت، تراءى لها أنه فيه، يحادث أبيها بكلام تصحبه هزات رأس، فرّت إلى حضن أمها، تراءى لها أنه يسمع ترددات نَفَسها، سكنت إلى غرفة أخوتها وجدتهم يتباكون وهم يلعقون حبات الحلوى المعسلة والقادمة من باكستان في علبة معدنية مكتوب عليها بحروف أردية، جلست وتناولت قطعة ذابت في فمها، واختلطت بنشيجها المتقطع، وحين هدأت قليلاً لفت بالشادور، وتليت آيات من القرآن منتقاة، وامتدحوا قدامها فضل زواج الصغيرة.
تراءى لها غبشاً وهو يقدم علبة فضية فيها كحل أثمد جلبه تاجر أفغاني من مكة، طلب من أمها أن تكحلها به ليزيد من عمرها، ثم قدم مهرها لأبيها والي نعمتها ووكيلها، وثوباً أحمر مرقّشاً لأمها لم يكن يناسبها، وزجاجات عطر أخذت على عجل من مازج الروائح المحلي، ثم طرح عليها غطاء الرأس الموشى بخيوط مذهبة، زعم أن أمه حاكته بيدها، تراءى لها في كل مكان، يسد عليها نقطة النظر، ويغثّها بنفس يفح بخلطة النسوار الخضراء، ورائحة الفحولة، شعرت بحائط سميك يبنى حول طفولتها البَرّية، يطوقها بلا نوافذ، وباب صغير ووحيد يطل على مرأى الذئب المهرول عطشاً، وهو يحمل في يده المشعرة عملة معدنية أخذها الأب، وفرّحت الأم، وفي اليد الأخرى علبة حلوى أكلها إخوانها وهم يبكون، نرجس وحدها ذهبت في وحدتها البعيدة تزكمها روائح الذئب العطش وسكبت عيناها لأول مرة كل مائهما الأزرق الصافي حامل سر خطفة ذلك الملك في ساعة بركة.


ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com