كيف يمكن لسيف أن يعرف مدينته إذا كان لا يعرف شيئاً عن أسماء أحيائها القديمة وأزقتها التي التهمها العمران والأسفلت والزجاج ؟ سيف لا يعرف سوى الحي الذي يسكنه والمنطقة الجميلة التي تقع فيها مدرسته النموذجية، والأحياء الراقية حيث يسكن أصدقاؤه، وهو يعرف جيداً أسماء كل المراكز التجارية واحداً واحداً، وأين يقع كل مركز، وربما يعرف بطريق الصدفة البحتة أسماء الفلبينيات اللواتي يبعن في محلاته، سيف يعرف أشياء كثيرة عن دور السينما وآخر الأفلام التي تعرض فيها، والمتاجر التي افتتحت مؤخراً في المركز المجاور، كما يعرف على وجه الدقة أسماء الماركات التجارية التي تبيعها.
سيف ولد ذكي جداً يعرف الإنترنت جيداً، والبلاكبيري والفيسبوك والتويتر، وقد سافر لوحده ذات يوم وتحمل مسؤولية حريته بشكل مدهش، لكن سيف لم يغادر ثقافة المول والإنترنت، لم يتعرف بشكل سلس إلى ثقافة الفريج الشعبي، لم يلعب الكرة في الساحة الرملية ولم يصطد الطيور، ولم يركض خلفها على الشاطئ الواسع، ولم تتسخ قدماه بالقار الأسود، لم يسبح في البحر الكبير، ولم يلوح للمراكب البعيدة الراسية على حدود الأفق كعلب الكبريت، لم يعلمه أبوه ولا معلموه ولا كتاب اشتراه بالصدفة أي شيء عن أسماء الطيور والأسماك والمناطق والفرجان والعائلات التي سكنت هنا منذ أزمنة بعيدة وشكلت ذاكرة المدينة ؟
لم تنظم المدرسة له ولرفاقه رحلات تعريفية سليمة للأسواق القديمة كسوق السمك وسوق الأدوية الشعبية، ولقرى الصيادين والمزارعين هناك في مناطق الساحل الشرقي، ولم يتعرف على القنص والمقناص وطريقة التعامل مع الصقور أليست هذه واحدة من أهم رياضات أهل بلده وواحدة من أعرق التفاصيل التي نتباهى بها ؟
لدينا رجال اشتهروا بأنهم أفضل من بنى السفن الخشبية في منطقة الخليج وقد زارتهم محطات تلفزيونية أجنبية لا حصر لها ودونت سيرتهم وإنجازاتهم وحفظت ضمن أفلام ثقافية شديدة الأهمية، وهم يتسربون إلى الموت واحداً تلو الآخر دون أن يفكر معلم واحد في أخذ هؤلاء الصغار ليسمعوا حديث هؤلاء ويعرفوا منهم أسرار الخشب والسفن والبحر والرجال، ألسنا أهل البحر والغوص والترحال منذ أول التاريخ ؟ فماذا يعرف سيف وكل جيله عن تاريخ البحر والغوص والعناء سوى هذه الجمل الجاهزة كـ”ساندويتش” بارد ؟
سيف أيها الصبي الجميل والذكي ويا كل رفاق سيف نحن نعترف بأننا مقصرون في حقكم، فبقدر ما نتهمكم بأنكم منفصلون عن تراثكم ومغتربون عن هويتكم ولغتكم وبقدر ما نتهكم عليكم ونسميكم بـ “جيل الهامبرجر” والإنترنت والبيتزا، بقدر ما يتوجب علينا أن نعتذر إليكم لأننا لم نعلمكم أبجديات الوطن والهوية والتراث كما يجب، لأن الوطن ليس عنوانا في كتاب ولا موضوعا إجباريا في امتحان اللغة العربية آخر العام، والهوية ليست كلاما مرسلا نمضغه كعلكة خالية من السكر، والتراث نعيشه ونمارسه ونتغلغل فيه قبل أن نحوله إلى رقصة ومسابقة تلفزيونية.
أحسست وأنا أتحدث إلى سيف بكم هائل من الادعاء نمارسه جميعا ونحن نثرثر صباح مساء وبحرقة ظاهرة على الهوية والبلد، بينما أبناؤنا لا يعرفون شيئا عن تفاصيل مدينتهم التي “يسكنونها عليها” كما يبدو بينما يتوجب أن يتغلغلوا في شرايينها كي يعرفوها ويحبوها وينتموا إليها.


ayya-222@hotmail.com