في ظل هذا التسارع الحياتي الكوني، أصبح الحديث عن الأخلاق «تنظيراً مثالياً» أو حنيناً لماض أخلاقي مجيد ولّى، أو رجعية وتخلفاً، وربما بات اليوم إرهاباً! أو هروباً من واقع عربي متخلف علمياً، أو عجزاً عن مسايرة التطور العلمي. لا ننفي واقعنا وتخلفنا عن ركب العلم، ولكن هذا لا ينفي أهمية الأخلاق في صنع الحضارات.. عرف العرب بحسن أخلاقهم وقد بلغوا فيها مراتب عُليا، ما سبقهم إليها سابق، وما وصل إليها طامح، وقد فتحوا العالم بأخلاقهم الإنسانية، يلقون أضيافهم بوجوه بشوشة، يكفّون أذاهم عن غيرهم، ولا يعتدون، يصفحون ويعفون عمن ظلمهم، حين يقدرون عليهم، يحفظون حقوق جيرانهم، يكرمون أضيافهم، ويجيرون من يستجير بهم، باذلين الغالي والنفيس في نصرة المظلومين، وإعطاء المحرومين، ونجدة الملهوفين. لما امتدح الله عزّ وجلّ نبيه في كتابه الكريم مدحه بحسن الخلق قال: «وإنك لعلى خلق عظيم». وقال صلى الله عليه وسلم : «ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق». وقال عبدالله بن المبارك «رحمه الله»: حُسْنُ الخلُق طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكفّ الأذى. وصحب ابن المبارك رجلاً سيئ الخلق في سفر فكان ابن المبارك يحتمله ويداريه، فلما فارقه بكى ابن المبارك فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: بكيتُه رحمةً به، فارقته وخلقه السيئ لم يفارقه! وقال الفضيل «لأن يصحبني فاجرٌ حسن الخلُق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق ،لأن الفاجر إذا حسن خلُقه خف على الناس وأحبوه ، والعابد إذا ساء خلقه مقتوه» ودخل محمد بن عباد على المأمون ، فجعل يعمّمه بيده وجارية على رأسه تتبسّم ، فقال لها المأمون: مم تضحكين؟ فقال ابن عباد: أنا أخبرك يا أمير المؤمنين، تتعجب من قبحي وإكرامك إياي، فقال: لا تعجبي فإن تحت العمامة كرماً ومجداً. قال الشاعر: وهل ينفع الفتيان حسن وجوههـم إذا كانت الأعراض غيـــر حســـانِ فلا تجعل الحسنَ الدليلَ على الفتى فما كل مصقـــول الحديـــد يماني وقيل للأحنف بن عاصم :ممن تعلمت حسن الخلق ؟ فقال :من قيس بن عاصم، بينما هو ذات يوم جالس في داره ، إذ جاءته خادمة له بسفود عليه شواء حار فنزع السفود» قضبان» من اللحم وألقته خلف ظهرها فوقع على ابن له ، فقتله لوقته فدهشت الجارية وخافت، فقال : لا روعَ عليك أنتِ حرّة لوجه الله تعالى. وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه دعا غلاماً له، فلم يجبه، فدعاه ثانياً وثالثاً، فرآه مضطجعاً، فقال : أما تسمع يا غلام؟ قال :نعم. قال فما حملك على ترك جوابي؟ قال: أمِنْتُ عقوبتك، فتكاسلت، فقال :اذهب فأنت حرّ لوجه الله. وقال أبو تمام : من لي بإنســـــانٍ إذا أغــضبـتُهُ وجهلتُ عليه كان الحـلم رد جوابه وإذا صبَوتُ إلى المدام شــــربت من أخلاقـــه وســكرت من آدابــه الخُلْق والخُلُق لغةً: السَّجِيّة، فيقال: خالِصِ المُؤْمنَ وخالِقِ الفاجر. وهو الدِّين والطبْع والسجية. قال أحدهم: هويتكم بالسـمع قبل لقائكـــم وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفهِ وخُبرت عنكم كل جــودٍ ورفعـ فلمـــا التقــينا كـنتم فوق وصفهِ ? بالفصيح: حُسْنُ الخلق يوجب المودّة.