في روايته المهمة، التي نال عنها أهم جائزة للرواية في إسبانيا (جائزة بلانيتا) عام 1990، يتحدث (أنطونيو جالا)- الكاتب الإسباني الشهير- عن حياة وسيرة (أبي عبدالله الصغير) آخر ملوك الأندلس، وقد جاءت رواية (المخطوط القرمزي) على شكل يوميات يقال إن بعثة فرنسية قد عثرت عليها عام 1931 في واحد من أهم مباني مدينة مراكش هو: جامع القرويين.
في أحد فصول الرواية يتحدث (أبو عبدالله الصغير) عن طفولته فيقول: (أتمنى أن تكون طفولة ابني أكثر فرحاً من طفولتي، أتصور أن الطفولة كنز ينتزعونه منا شيئاً فشيئاً، لذلك أتمنى أن يجد ابني أشخاصاً كالذين التقيتهم خفية تقريباً، وهم من قربني من العالم، ولولاهم لما عرفت شيئاً، أو لكان ما عرفته عن الحياة الحقيقية قليلاً، فمنهم تعلمت لغة الصدق، والفضاء المتنوع، ونبض المشاعر الأولية التي هي الأنقى بعيداً عن قناع المجاملة التي تشوهها إلى حد الاقتلاع)!
وحينما تبحر في صفحات الرواية تعرف أن أهم الشخصيات التي قصدها الأمير بكلامه هم: مرضعته صبح، والبستاني الذي عمل في قصر جده ووالده فائز الجنائني، وعمه السمين جداً يوسف، وخادمه الزنجي مولى، وقد كانت شخصيات ثرية بالفعل، وخاصة الشخصية الأخيرة (الزنجي مولى).
لقد استوقفتني في هذا الرجل فلسفته في السعادة والحياة، خاصة عندما كان يقول للأمير الصغير: (تعلمت من الأندلسيين أيها الأمير، أفضل درس: تقليص الحاجات من أجل تقليص العذابات التي يكلف إشباعها كثيراً). وهكذا توصل هذا (المولى) إلى أن الأشياء التي يحتاجها صارت قليلة جداً، ثم إن هذه الأشياء القليلة صار يحتاجها بشكل قليل جداً، وهنا وجد الرجل سعادته الحقيقية، حيث إن حقيقة السعادة ليست في أن تملك وإنما في ألا تحتاج!
وربما كان صراع البشر على احتياجات الدنيا نابعاً من ضعفهم الإنساني أمامها ومن عمق هذا الضعف تبرز كل سوءات الإنسان وشروره وتناقضاته، وكلما نمت غابة الاحتياج في قلبه تباعد عن إنسانيته وكثر حديث الناس عن الأحقاد والحسد والحساد، والمتآمرين، والاحتيال والغدر وارتداء الأقنعة و...! فلولا تهالك الناس على تفاهات الدنيا من مال ومناصب و.. ولولا عدم استحقاقهم وانعدام مؤهلاتهم وضعف شخصياتهم ومواهبهم، لما ضج الكثيرون بالشكوى من خيانة الأقرباء وغدر الأصدقاء.
وحين تتأمل في دنيا الناس، وتتلفت حولك، ترى أشخاصاً يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء، مستعدين لأن يزرعوا الحياة حقولاً من الشوك والشك والأحقاد، في سبيل تحقيق احتياجات صغيرة يظنونها حقهم الذي يجب أن يحصلوا عليه بأي طريقة، ثم يمر العمر، فلا تثمر حقولهم سوى المرارات التي يقذفها الزمن أمام بواباتهم دون أن يتحقق لهم الشيء الذي أفنوا العمر يحرثون البحر لأجله. فمن يزرع الريح لا يجني سوى العاصفة!
وصدق سقراط حين قال: (من يستطع أن يستغني عن الضروري يكن من أقوى البشر)!


ayya-222@hotmail.com