إذا أردت في هذا الزمن المفتوح على كل شيء أن تنشر أو تُشِيعَ أمراً فَقُلْ: «إنه سرّ»، فإذا كنت من المغمورين أمثالي، ربما كنت من المحظوظين، إذا وجدت من يحفظ سرك، وربما كنت سيئ الحظ إذا ذاع سرك وأصبح خبراً على لسان من يعرفك ومن لا يعرفك، أما إذا كنت من المشهورين من وزن « الهيفاء» ووسامة «العجرم» فإن سرّك هذا سيكون بلا شك عنواناً مستباحاً وموضوعاً شائقاً في صفحات الصحف و الفضائيات، ويذيع صيْتك في الآفاق، ولو أردت الهروب من كاشفي وكشّافة الأسرار، فلن تستطيع إلى ذلك سبيلا، لأنهم سيتعقبونك ويتتبعونك ويتبعونك كظلّك، حتى إلى غرفة نومك، فقد أصبح هناك متلصّصون «باباراتزي»، بالفضائح وكشف الأسرار مختصون، وكل حركة وسكَنَة، ولمسة وهمْسة، وهَمْهَمَة وغمْغَمة، وكل كلمة متتبعون، بعدسات آلاتهم السحرية «كاميراتهم»، التي تقرب كل بعيد، وكل هنة أو سقطة لك تعيد، ولاقطات الصوت «المايكروفونات» التي تسمع كل الأشياء، حتى دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء، عليك حتى أنفاسك يعدّون ويرصدون.. وعبر الأقمار الاصطناعية، مكشوفاً، متابَعاً عبر الخريطة من شارع إلى شارع ستكون، فلا من مقدر لخصوصية ولا من وازع ولا من حسن طويّة، وعبر أجهزة الكشف الحديثة شفافاً هفهافاً، بل في منتهى الشفافية، كما ولدتك أمك، بلا ستر أو بطانية! وبالطبع لا يشق للمرأة غبار في إفشاء الأسرار، فجلسة فنجان قهوة صباحية أو مسائية، أو جولة تسوق أو مشوار، للسيدات المنزليات أو من رواد الأسواق و»المولات»، كفيلة بـ «نشر غسيل» أصحاب البيوت والكرامات من أسرار غرف النوم والشرفات، أما شاغلات و»راعيات» المكاتب من الموظفات، فحدث ولا حرج، بالإضافة إلى الرسائل و»المسج»، آذانهن، ما شاء الله، أشد سمعاً للأخبار المتسربات، من اللاقطات المسماة «الدشات»، من مكتب هنا، ومكتب هناك، وما أدراك ثم ما أدراك؟ ما يدور في الجلسات، في المكاتب وفي الردهات من كشف الأسرار الخافيات من المستقبل القادم والمتوقع من القرارات! جاء في الحديث الشريف: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود». وقال علي كرّم الله وجهه: سِرُّكَ أسيرك فإذا تكلمت به صرت أسيره. وقال عمر بن عبد العزيز: القلوب أوعية، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها. فليحفظ كل إنسان مفتاح سره. أما الإفشاء «اللغوي» فهو النشر، ويفشو فشّواً وفُشِيّاً، إذا ظهر، كتفشي الحبر على الورق الأبيض الناصع، ونلحظ أن في الإفشاء سرعة في نقل الخبر، فما أن يكشف السر حتى يشيع وينتشر كانتشار النار في الهشيم. وتفشى المرض إذا عمّ وانتشر. والكتمان نقيض الإفشاء والإعلان، وكَتَمَ يَكْتُمْهُ كَتْماً وكِتْماناً، والسرّ لغة ما أخفيت، من سَرَرَ، والسريرة: عمل السر من خير أو شرّ، والجمع سرائر. والأسرّ الشيء كتمه وأظهره، وهو من الأضداد، فتقول سَرَرْتُه: كَتَمْتُه، وسَرَرْتُه: أعلنتُه، حيث ورد في قوله تعالى «وأسرّوا الندامة» أي أظهروها. وأسْرَرْتُ الشيء أخفيتُهُ. وقيل: كتمان الأسرار يدلُّ على جواهِر الرجال. وكما أنهُ لا خير في آنية لا تُمسك ما فيها، فكذلك لا خيرَ في إنسانٍ لا يمسكُ سرَّهُ. قال الشاعر: إذا المـرءُ أفشـــى ســرَّهُ بلســانه ولام عليـــه غــيرهُ فهـــو أحمــقُ إذا ضاق صدر المرء عن سرٍّ نفسِهِ فصدر الذي يستودعُ السرّ أضْيَقُ ? كل سرّ تجاوز اثنين ذاع، والمرأة أفضل في إفشاء السرّ حتى من المذياع!