زرت لبنان كما لم أزر أي بلد عربي آخر، أحببته كما أحبه كل العرب، ترددت عليه وجلت فيه كله من شماله إلى جنوبه، وصار لي فيه أصدقاء وأحبة، أحن إليهم ولا تنقطع صلتي بهم على طول الأيام وتبدل الأحوال، لبنان الذي عرفناه في السبعينيات لم يتبق منه شيء إلا الاسم والشهرة، وبنايات مازالت تحمل ندوب اقتتال غبي طويل، وبقايا زعامات محنطة تتنفس هواء بارود البنادق التي مازالت معلقة على جدران ذاكرة حرب مجنونة طحنت لبنان من أوله إلى آخره.
لبنان الثمانينيات ليس له وجود، فقد كان هدفاً للقناصة والميليشيات وطواحين الموت اليومية، وحينما لاحت سنوات التسعينيات لاح اتفاق الطائف كحل سحري ليس بالإمكان أبدع منه، ومع ذلك فقد كرهه مسيحيو لبنان حتى اليوم، لأنه سحب البساط من تحت قدمي زعيمهم المكلل منذ سنوات الحماية الفرنسية، ليكرس سلطة الحريري ومن تبعه فيما بعد من أهل السنة الذين ضاعفوا سلطاتهم، فإلى جانب حقهم الحصري في الرئاسة الثانية ـ رئاسة الوزراء ـ فقد أضافوا تحكمهم بمشاريع إعادة بناء العاصمة.
بيروت التي حولتها صفقات السياسة، وأحلام الشرق الأوسط الجديد، من عاصمة كل اللبنانيين إلى مدينة عادية تعبق بالتجار والمغامرين وأهل الثراء وبائعي الأوهام، بيروت الخارجة من دمار ست عشرة سنة، تحولت في سنوات الطفرة والعولمة وبداية الألفية الثالثة من كونها مكتبة العرب ومقهاهم الثقافي ودار نشرهم، وشرفتهم المطلة على الجمال والفن والحرية، إلى وسط تجاري ومقاه ومطاعم، ومربعات أمنية مريبة لزعماء من ورق.
بيروت اليوم ليست “ست الدنيا” كما عشقها نزار، ولبنان ليس هو الذي في الذاكرة كما غنته فيروز، تحول إلى سيدة ثرثارة تجادل بسبب وبلا سبب، إنه لبنان الذي لا نعرفه، لبنان الذي يغتال أبناءه تحت شمس الظهيرة وبقفازات سود تبيع الأسلحة تحت جنح المخيمات، وتأوي الإرهابيين، وتصادر أمان المدينة بخزانات رصاص البنادق الكاتمة للصوت، لبنان الذي لا أعرفه ولا أريد أن أعرفه، بعد أن اختفى صوت فيروز من على مدارج بعلبك وبيت الدين، وبعد أن صارت الخطب السياسية الجوفاء أكثر من إصدارات الكتب، وحفظ الناس أسماء مطربات الصف العاشر ونسوا أسماء القديسين والقديسات.
إذا استمعت لبعض القادة والزعماء اللبنانيين فإنك تسمع العجب العجاب، تقول الحمدلله أن هناك حكماء يعرفون الطريق لخلاص هذا البلد، ينسجون قماشة الواقع بعين العارف، ويصفون الحلول كما لا يمكن أن يصفها غيرهم، لكنك تكتشف سريعاً أن الكل بإمكانه أن يحيك سجادة الواقع اللبناني فلا شيء يبدو خافياً أو ملغزاً أو سرياً، لكن أحداً بعينه لا يملك الحل ولايمكنه أن يتبجح بقدرته على اجتراح معجزة الشفاء!!
ما من خيط في يد شخص واحد، كل الخيوط في يد كل الزعماء وكل الحلفاء وكل الفرقاء، هذا بلد لا يمكن أن يحكمه فرد، كما لا يمكن أن تتفق أي جماعة على حكمه، فحين أراد أن يحكمه الحريري الكبير منفرداً قتل، وحين اتفق “الآذاريون” انقسموا بين ثمانية و14، وحين تحالف الشيعة والموارنة دخل البلد إلى غرفة الانعاش، وحين انقلب جنبلاط على حلفائه سقط الحريري الابن من كرسي الرئاسة وجاء ميقاتي ليصير لبنان كالميت سريرياً.


ayya-222@hotmail.com