لا أزال أذكر اليوم الأول الذي وطأت قدماي أرض نيويورك. خرجت من مطار “جى إف كندي”، فلم تكن إجراءات الأمن معقدة، مستفزة، كما يحدث الآن، خصوصا عندما يقرأ العاملون في الجوازات اسمك، ويكتشفون أنك عربي مسلم. كانت زيارتي الأولى إلى نيويورك سنة 1977، قادما من القاهرة، وخرجت من المطار في الصباح، وكان أول ما لفت انتباهي هو الزحام، وضجيج الأميركيين السود الذين كان يتميزون بكثرة سبابهم واستخدامهم لكلمة shit بكل ما يضاف إليها أو تضاف إليه، لم يكن الوقت متاحا للنزهة في داخل نيويورك التي عرفتها من الأفلام الأميركية، فقد كان لابد من ركوب تاكسي إلى مطار “لاجوارديا” الداخلي، وقضيت فيه خمس ساعات في انتظار موعد طائرة “النورث وست” التي تحملني إلى مطار شارلوت في نورث كارولينا، حيث وعدني صديقى أحمد شمس أن يكون في انتظاري بسيارته ليستضيفني أسبوعا في منزله القريب من جامعة نورث كارولينا التي كان يقوم بالتدريس فيها آنذاك، كي أعتاد على نظام الجامعات الأميركية قبل أن أسافر إلى ماديسون في ولاية وسكنسون التي قضيت فيها عاما أستاذا زائرا. وكان الانتظار في مطار “لاجوارديا” صعبا، ولذلك قضيت الوقت في التعرف على الناس، والدردشة مع من وجدتهم في المقاهي المتناثرة في باحة المطار الكبير، وكانت هذه الدردشة أول سبيل لمعرفتي بشخصية المواطن الأميركي البسيطة والسهلة والتي يمكن أن تدخل معك في نقاش يشبع فضولها وفضولك دون حواجز كثيرة، وكان حواري الأول مع أميركية مسنة، فقد خفت من محادثة شابة يمكن أن تظن بي الظنون، وربما لخجلي المتأصل، كان اختياري لسيدة قريبة مني في الكافيتريا التي جلست فيها، وكانت هي التي بدأت الابتسام، فحييتها، وردت التحية في عذوبة مشجعة، وسألتني: هل أنت إسباني؟ فقلت: لا، فقالت: إيطالي؟ فأجبت بالنفي، وأضفت: ولكني أنتسب إلى البحر الأبيض المتوسط، فتحيرت السيدة، وبان على وجهها الحيرة الباسمة، فأرحتها بقولي مصر، فهتفت باسم مصر، مرددة الأهرامات وأبو الهول والفراعنة ونهر النيل، فابتسمت ووجدت باب الحديث مفتوحا، وأخذت تسألني عن الناس في القاهرة، وعن الجامعة التي تعلمت فيها، وهل لا يزال نهر النيل مليئا بالتماسيح، وهل لا تزال الجمال والخيل هي أدوات الانتقال، وظللت أشرح لهذه السيدة الطيبة أنني تخرجت من جامعة القاهرة التي كنت أراها جامعة عظيمة في ذلك الوقت، وأن هناك مواصلات حديثة في القاهرة، فقد هجر الناس الجمال والخيل واستبدلوا بها السيارات والقطارات منذ سنوات طويلة، وقلت لها إن القاهرة قد عرفت القطار الذي يصل بينها والإسكندرية، قبل أن تعرف نيويورك محطة قطار، وكانت السيدة مندهشة، تعبر عن دهشتها باللازمة: حقا؟ وظللنا نتحادث على هذا النحو لوقت طويل، وأنا سعيد بالسيدة جانيت التي كانت أول من عرفت في الولايات المتحدة سنة 1977، وكانت من الرقة بحيث حرصت على محادثتي ببطء يتناسب مع درجة إتقاني للإنجليزية في ذلك الزمان البعيد.