هذه الأم.. هذه اللغة العربية، تعيش هذه الأيام في مأوى للعجزة، على سرير صدئ متكسر، ولا أحد من الأبناء يقوم بزيارتها والاعتناء بها، لأن لغات أخرى “أمهات أُخر” حلَّت محلها، فشاعت واتسعت وأصبح على الإنسان أن يحذو حذو الآخرين، وإلا لم يستطع التواصل والتعامل مع غيره. اللغة العربية، تخلى الكثيرون عن أبجديتها، وتنصلوا من قواعدها، وتحللوا من رفعها ونصبها حتى صارت مجرورة دائماً، مكسورة في كثير من الأحيان.. لا شك في أن مبررات كثيرة سوف يسوقها المتشبِّثون بغير اللغة العربية، وأول ما يُقال إن المجتمع أصبح يتعامل مع جهات ومؤسسات وشركات وأفراد وجماعات، لا تتقن اللغة العربية، ولابد من الانصياع للواقع والتحدث بلغة القوم الذين نتعامل معهم. تفكير مريب، وتصرف غريب، أن نضطر نحن بأن نغير من لساننا لحساب الألسنة الأخرى، والمعروف دائماً والمألوف، هو أن الذين يخرجون من بلدانهم إلى بلاد أخرى، هم الذين ينكبون على دراسة لغة البلدان التي يذهبون إليها، ولكننا نحن هنا عكسنا الآية، وغيَّرنا الثوابت، وقفزنا على الحقائق، وأجبرنا أنفسنا على الحديث بلغة غير لغتنا، وإنْ تحدثنا بلغتنا فإننا نلويها، ونعجنها، حتى تصير شبه لغة، ونصف حديث لا يعرف أوله من آخره.. الإمارات بلد الاستقطاب، والعيون منصوبة نحوها، وكل إنسان على أرض الخليقة يتمنى أن يعيش على أرض الإمارات لأنها بلد الخير والعطاء، والأمن والأمان، الأمر الذي يفرض علينا أن نكرس ثوابتنا، وأن نغرس قوانيننا، وأن نفرض على الآخرين احترام لغتنا، وقيمنا.. مدهش جداً أن نرى الناس هنا، أفراداً ومؤسسات، تقوم في معاملاتها بوسيط لغوي، غير لغة الأم. المسجات في الهواتف، والمراسلات والإخطارات، كل تلك لا علاقة لها بالعربية، ولا أدري، ما هو “التخلف” الذي سيصيب البعض لو تكلم بلغته، وتعامل بلغته، ووضع اللغة العربية هي الأساس والجوهر. فإذا لم نعتن بهذه اللغة، ولم نلتفت إلى أهميتها كجزء لا يتجزأ من الهوية، فما الداعي لتدريسها في المدارس، وما الجدوى من عقد الندوات والمؤتمرات، والمحاضرات سعياً لإحياء اللغة العربية؟ هذه اللغة لن تعيش إلا على ألسنة الناس، ولن تقوم لها قائمة إلا إذا سقيناها بماء المكرمات، واحترمناها، ووضعناها كقاسم مشترك، يربط وشائج القربى بين أفراد المجتمع، وأبناء الدم الواحد.. الشعوب لا تتحضر بالتنكر لدمائها ومائها، والشعوب لا تتطور بالتحلل من أخلاق اللغة، والشعوب لا تضيف إلى الحضارة الإنسانية شيئاً، إلا بمفاهيمها اللغوية، وعبق تراثها، وثقافتها. نحن بحاجة إلى لغتنا اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأننا نريد أن نحدث العالم عن نهضتنا بلغتنا، ونريد أن نتواصل مع الجهات الأربع، بتنوين الفتح، والألف الممدودة، نريد أن نكون نحن بهويتنا، ولغتنا لا بلسان الآخر، ووجهه.