لقد أغدقت عليَّ بلادي بخيرها فتغربت لسنين طويلة، علمتـني أن العلم والعمل هما ما يبني الإنسان والأوطان. وعندما ينظرُ من لا يعرفني في تفاصيل الاغتراب، يفترض كثيراً وقد لا يتساءل أبداً ولكنه قد يشك في طبيعة تلك الغربة، ولماذا كل ذلك الفراق؟ وكثيراً ما ظلم الناس أنفسهم ودارت على ألسنتهم الأقاويل والخراريف، وعندما سألني محرر ذات مرة عن الفائدة التي أضافها لي السفر وتجارب الغربة، قلت له: جئنا في زمنٍ يحترم الاكتشاف وكنا في عنفوان الشباب عندما منحونا سماءً زرقاء وزرعوا لنا أجنحة عملاقة، طارت بنا شاهقاً وحلقت بخيالنا فلم نبال كيف ترفرف أو بأي اتجاه تسير، ولكننا كنا على يقينٍ لا جدل حوله بأننا إلى أعشاشنا عائدون ولدينا عزم وإصرار على رد الجميل، وأن نجعل من هذا الوطن الذي نفديه بالغالي والأغلى جنة تشرق شموسها على البعيد والقريب. وكلما اختليت بنفسي حَـمَدتُ الله، وشكرت وطني على هذه النعمة التي رسخت مفهوم الصبر وقيمة المثابرة، ولا تفارقني أصداء مقولة عمر بن الخطاب “لو أن الصبر والشكر بعيران، ما باليت أيهما ركبت”. علمنا والدي بالخير ووالدتي خديجة، أن الحياة والموت بيد الله ولكل مرء في هذه الحياة نصيب من السعادة، والرزق، والحزن، والبلاء، والفرج وشحذا تركيزهما على أن نبتعد عن آفة الحسد وأن نسمو بأنفسنا عندما يَلغطُ حوار القلب مع الضمير، وأن تكون نيتنا صافية كمياه شواطئنا وأن نذكر قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) “إن اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ، وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ” وقالا بإصرار: “يوم بتسوون شيء سووا أحسن ما عندكم وتيَـمّلَوا.. وعن تمدون إيدكم على الشيء اللي هوب مالكم ورمسوا بالصدق ترى ما يخاف إلا السارق، وسيروا السيرة العدلة وحفظوا عماركم عن العيب وترفعوا وان ما رمتوا تعلقوا ترى المتعلج أحسن من الطايح”، وكم سرحت كما يسرح الصغار عندما تتجلى طفولتهم فكنت إلى الأمس أعتقد أن جميع أبناء وبنات وطني وخاصة من نشأ في بيئتنا، وأكلته رمضاء القيظ و”تقفقف” من برد الشتاء و”تمتح يوم تهب السايبة واستبشر بالخلال والبسر والرطب والتمر واللوز واللمبو والهمبا”، أنهم يفكرون كما أفكر، وعلمهم آباؤهم ما تعلمناه من أبوينا. لقد منحنا الشيخ زايد ـ طيب الله ثراه- مالا يتصوره عقل وخلفه ولاة أمرٍ رفعوا الراية عالياً، وأخذوا على عاتقهم مسؤولية صون الوطن بما استمدوه من مؤسس الدولة. وأصاب بخيبة أمل وحزن عندما أرى من يلقي القمامة في الطريق، أومن لا يبالي بمسؤولية عمله ولا بما يقدمه لحفظ أرضه، فيراوح بين المكاتب ويصبح مهرجاً محبوباً ويطعم أهل بيته سماً يجترعونه في نهاية كل شهر، لقد تغربنا وشقينا لنثبت حبنا ونفي بعهودنا ولانترك أدنى مجال للشك في مصداقية ما سنواجه به الله بلا خوفٍ أو ندم. وللعارفين أترك تفسير كلمة شك، كما ورد في لسان العرب، حيث يقول ابن منظور إن الشَّـكّ: نقيض اليقين وهو كذلك اللُّزومُ اللَّصوق. bilkhair@hotmail.com