في أواخر الثمانينيات حظيت بسفرة إلى موسكو، وكانت الأولى لي قبل أن ينهار الاتحاد السوفييتي، ويتفرق إلى جمهوريات وشعوب ومافيات، في ذلك الزمن لا خير في رحلات خاصة إلى كل المعسكر الشرقي وتوابعه، لأنك لن تجد ما يسرك، ولو كانت جيوبك عامرة، والخير أن تتلقى دعوة رسمية، صحيح لن تعيش في رغد، ولكن على الأقل ستتوافر لك الضروريات، وتدرون حسب النظام الاشتراكي تأكل قدر حاجتك، وتسكن ما يمكن أن يتسع لجثتك، ثيابك مكوية أو غير مكوية هذا أمر لا يخص أحد، ولا يضر الشعب في شيء، المهم كنا مجموعة في ضيافة اتحاد كتاب وأدباء الاتحاد السوفييتي، والجماعة ما قصروا بصراحة، لكن حسب إمكاناتهم، فهم بالتاكيد لا يمكن أن يستوعبوا دلع المواطن النفطي أو الرفاهية الإماراتية، فكيف إذا ما كان في الوفد شخص، وأكاد أقول مثلي، لو وجد من يدّق لها الماء، لما قال: لا، ولكي لا نطول في الحكاية، أسكنونا في أكبر وأضخم فندق في موسكو، وفي العالم كله، فندق راسيّا الكبير، حيث كانت غرفه تصل إلى6 الآف غرفة، وفيه 21 مطعماً، وهناك موظفو استقبال في كل دور، لأن الدور بلد بأكمله، حينما تلقينا تلك المعلومات، قلنا سنضيع فيه لامحالة، خاصة وأن كل منا أسكن في دور مختلف، ففي أيام الاتحاد السوفييتي لا تفرقة، كل الشعوب متساوية في الإنسانية، شعب واحد، سكن واحد، حمام واحد، أفريقي، أميركي لاتيني، أوروبي، عربي، كلهم واحد تحت علم الأممية، صعدت إلى طابقي وألقيت التحية على مسؤولة الطابق التي لا يمكن أن توحي لك بجثتها السمينة والمتينة، إلا أنها من المناضلات في حرب حصار لينينجراد، ولما تبسمت بمرارة موظف منهك من الجلوس، وبانت أسنانها الذهبية، تذكرت الوصيات الليليات على بنات شيراز، ومسهلات الرذيلة قبل وقت طويل مضى عندنا، فجفلت وشعرت أنها تحرس أكياس بطاطا، ومشروباً محلياً يفتك بالكبد، فسلمتني مفتاح غرفتي الذي كان أشبه بمفتاح غرناطة الضائع، شيء بقدر الشبر مصبوب بالحديد والنحاس صباً، لا يقدر فتى أرعن على حمله في يده الرطبة كثيراً، ما أن دخلت الغرفة حتى صدمني السرير الذي يتسع لجندي مستجد، ببطانيته الصوفية ذات الوبر الخشن الرمادي أو البني الغامق، والمرتبة ربما كانت محشوة بالتبن، ونشارة خشب، صنعت لينام عليها رجل منهك من التعب والفودكا، فتذكرت ألا رفاهية مع الاشتراكية، فالغرفة لا مجال فيها أن تمشي خطوتين منتظمتين، وأعتقد أن الحمام كان بلا باب، لأنه لا يحتاج ذلك القن إلى باب، طبعاً التلفون يشبه قطاً سميناً جالساً، أما التلفزيون فشكله المغبر، وشاشته الصغيرة والذي أكاد أن أجزم أنه لا يشتغل إلا عند نشرة الأخبار الرسمية.. وغداً نكمل .


amood8@yahoo.com