تعودت أن أقرأ سير العظماء منذ الصغر، وأتخيل نفسي واحداً من عصورهم. قد تكون عصورهم قاسية ظالمة جاهلة، مثل عصر جاليليو الذي اكتشف أن الأرض كروية، وأن الأرض تدور حول نفسها، ولكنه اضطر إلى إنكار ما اكتشفه مخافة التعذيب، بعد أن اتهموه بالزندقة، وبعد أن لم تتردد محاكم التفتيش الديني في حرق أقران له وهم أحياء، مثلما حدث مع برونو الذي كان حرقه إنذاراً لأمثال جاليليو بعدم قول الحقيقة إلا رمزاً، وبعدم تحدي جبابرة الجهل المعرفي والتعصب الديني إلا مراوغة. وقد شعر أحمد شوقي الشاعر الإحيائي بهذا المعنى فقال بيته الذي لا أزال أحفظه، وأردده في الحالات التي أرى فيها مخاطر المواجهة غير المتكافئة بين العلم والجهل، التسامح والتعصب الديني، الإيمان بالديموقراطية والقوة الباطشة للدكتاتورية. أما بيت شوقي فيقول: إن الأراقم لا يطاق لقاؤها وتُنَال من خَلْفٍ بأطراف اليد والأراقم هي أعظم الحيات السوداء وأشدها خطراً وفتكاً، والمعنى يؤكد ضرورة تجنب المواجهة المباشرة في حالات التهديد القاتل لحياة المفكر أو العالم التي هي أهم للبشرية وأبقى أثراً من جلاديه، على أن الرغبة في أن أكون شاهداً على هذه العصور الظالم أهلها لم تخل نفسي من دوافعها، فكنت أتخيل نفسي أمتطي آلة مثل آلة الزمان التي اخترعها الروائي إش جي ويلز، أو أركب بساطاً سحرياً يعبر بي العصور والأزمنة، وأنتقل من عصر إلى آخر وأنا أرقب الأحداث الجسام كأنما أتأملها على شاشة عرض سينمائي، وأندمج خيالياً مع الأحداث وأتعاطف مع الأبطال الطيبين، ولا أخفي نفوري من الظالمين، ولا تعاطفي مع المظلومين. أما في سير العظام الذين ينتهي عذابهم من أجل القضية التي يؤمنون بها إلى انتصار، فهي تبهرني منذ الطفولة ولا زالت، يستوي في ذلك أن أقرأ عن سعد زغلول في الكتاب العظيم الذي كتبه العقاد عنه، أو أقرأ عن تروتسكي «النبي المسلح»، في كتاب ضخم من ثلاثة أجزاء، قرأته في المرحلة الجامعية، وبقدر فرحتي بانتصارات سعد زغلول الوطنية، كان إعجابي المشوب بالقلق على تروتسكي، خصوصا بعد أن اختلف مع السفاح ستالين، وظل يواصل الفرار منه، إلى أن تمكنوا من اغتياله في المكسيك في نهاية الأمر، فمات غيلة، لكنه ترك إنجازات فكرية لا تزال تبهر العالم، كما ترك سعد زغلول إسهامات وطنية، لا تزال مصدر إلهام لنا، خصوصا في هذه الأيام التي اختلط فيها كل شيء.