في منتصف العمر تتكدس على القلب والرأس معاً أزمات ما كانت تخطر على البال يوماً، الكاتب ريتشارد ليدر يطلق على مشاكل منتصف العمر وصف (كبوة منتصف الحياة)، حيث على كل من يمر بها أن يواجه بقية المشوار بأسئلة يستحقها العمر ليكمله بأقل قدر من من العمر إلحاحاً وضرورة هي: ماذا نريد؟ ما الذي يتوجب علينا أن نحسمه بشكل نهائي، وبعيداً عن المماطلات التي استهلكت العمر الذي ذهب؟ كيف نشعر في الأيام الكئيبة. إن أكثر أسئلة منتصف علاقاتنا مع العمل، مع الأصدقاء، مع بعض القناعات التي عشنا العمر ونحن لا نستطيع الاقتراب منها لأنها في حكم المقدسات التي لا تمس، بماذا حلمنا ولم نحقق؟ بماذا رغبنا ولم نحل على ما حلمنا به ؟ ماذا تمنينا وظلت الأمنيات حبيسة أوهام المستحيل ؟ لماذا لم نحقق أحلامنا، ولم ننل رغباتنا يوما ؟ لقد توصل علماء السلوك بعد دراسات تطبيقية أجروها على عدد كبير من الأشخاص ممن يمرون بمرحلة منتصف العمر وخلال سنوات من الرصد والبحث إلى حقيقة خلاصتها أن هذه المرحلة من عمر الإنسان تمثل نقطة تحول مفصلية تمكن صاحبها من إعادة حساباته مع نفسه أولاً، وبالتالي مع كل التفاصيل بالرغم من ألمها وقسوتها، حيث أنه لن تتاح للإنسان فرصة أكثر قوة منها ليواجه نفسه ويتمكن في لحظة صدق من النظر إلى الخلف بثقة واستقلالية وتعقل. لا تنتهي الحياة بانتهاء العمل، ولا بترك الوظيفة، ولا بالانفصال عن الزوج أو الزوجة، الحياة تبدأ حين نضع الأجوبة على كل الأسئلة التي بقيت معلقة طيلة السنوات التي نجرجرها خلفنا بإعياء.. ولكي لا نشعر بهذا الإعياء ليس أمامنا سوى إعطاء الإجابات الصحيحة والدقيقة، ليس للناس ولكن لأنفسنا.. فنحن من سنكمل الطريق ببقية السنوات التي نريدها أن تكون أكثر خفة كي نتحمل المسافة المتبقية، وكي يزهر العمر على جانبيه بالكثير من الآفاق التي لم نتخيل يوماً بأننا سنرتادها لأننا حرمنا أنفسنا وقمعناها من مجرد التفكير في هذه الآفاق بحجة الممنوع وغير المستحب ونظرة المجتمع. إن ما يجعل الناس تموت خوفاً من مجرد فكرة التقاعد أو البعد عن العمل، ومحاولة الحفاظ على الوظيفة وتحملها تحت أي ظرف، هو اعتقادهم بأن العمل - وحده ولا شيء غيره - هو السبيل الوحيد لتنظيم وتشكيل وثبات حياتهم على وتيرة واحدة، فضلاً عن أنه يمنحهم ذلك النسق الثابت من العلاقات والصداقات الحميمة، العمل يمنحهم وفق تخيلاتهم ذلك الشعور بالأهمية، وبأن حياتهم منظمة وتسير وفق نسق منظم، فيرتبطون به جسدياً وعاطفياً حتى يصبح محور حياتهم، إنهم بهذه القناعة يمنعون أنفسهم حتى من مجرد النظر من النافذة لرؤية حياة أخرى تهدر في الخارج، وفرصاً أجمل تعرضها الحياة فيها من الأصدقاء والسعادة والمال ما يفوق ما يمنحه لهم العمل الروتيني. قد يصير التقاعد فرصة حقيقية ليرى بعضنا الحياة بشكل مختلف، وليعيشها بشكل أجمل، ليفتش عما لم يحققه، عما كان يحبه ولم يفعله، عن أناس آخرين لا نتنافس معهم بل نحبهم ولا يتآمرون علينا بسبب ترقية بقيمة 500 درهم، لذلك الذي كاد أمامي يبكي لأنهم قاعدوه من عمله وما زال شاباً: (اعمل ما تحب ولا تضع نفسك في مأزق العجز، فالحياة أكبر من وظيفة وأوسع من صالة مراجعين).