لا بأس من الإعادة، ففيها إفادة كما يقول المثل الدارج، لقد كتبت عن هذه القصة ذات مرة، وها أنا أكتب عنها اليوم ثانية، فإزاء بعض البشاعات والتجاوزات نحتاج إلى تثبيت بعض الحقائق وتنشيط الذاكرة.. الذاكرة الجمعية التي تختار أحياناً أن تنام أو تتلهى بتفاصيل زائفة، فتنسى في فترة السبات إنسانيتها، والكوارث الكبيرة المحيطة بها كما تسمح للخطأ أن يتراكم حتى يصير فساداً في البر والبحر يتهدد الإنسانية من أقصاها الى أقصاها! في قصة “النورس والقط الذي علمه الطيران” يأتي التشيلي “لويس سبولبيدا” الذي يتحول من كاتب مغمور إلى واحد من أكثر الكتاب الناطقين بالإسبانية حضوراً على الساحة الأدبية العالمية، وهو إذ يكتب قصته الساحرة حول القط “ثورباس” الذي علم النورس كنغا الطيران، فإنما يلج أرضاً صعبة في دنيا الرواية والقص، حين يصنع حكاية ساحرة وعميقة وبسيطة جداً تصلح للقراء ـ كما يقول هو ـ من سن الثامنة وحتى سن الثامنة والثمانين. لقد كتب «سبولبيدا» هذه القصة بناء على وعد قطعه لأطفاله ذات يوم بأن يكتب لهم قصة عن المعاملة السيئة التي نتعامل بها نحن البشر مع محيطنا، عندما نخرب الطبيعة وبالتالي نخرب أنفسنا ونعتدي على إنسانيتنا، حيث تدور الأحداث حول مغامرات القط الأسود السمين ثورباس الذي يقوده شعوره النبيل لإنقاذ حياة النورس كنغا التي لفظتها الأمواج اثر اختناقها بتلوث النفط فنرى القط يحتضن البيضة بعد أن وضعتها النورس وهي تلفظ أنفاسها ويعتني بالفرخ ويجتهد مع زملائه القطط كي يعلموه الطيران بناء على وعد قطعه القط للنورس كنغا قبل موتها! انك وأنت تقرأ هذه القصة تذهب مباشرة إلى عالم طفولتك المنسي، تلك الطفولة التي لا تخلو من القطط التي كانت تملأ المنازل والحارات، والنوارس التي كان الأطفال يطاردونها على السواحل طيلة النهار، كل ما تفعله القصة وأنت تلتهمها في ساعة من الزمن أنها توقظ عوالم طفولتك النائمة بقدرات هذا الروائي الساحر ليضعك في مواجهة تلك الطفولة من جهة وليوقظ فيك حسك الإنساني من جهة أخرى، ليحرضك وبقوة ضد الشراسة وجرائم التلوث التي يرتكبها الإنسان بسبب جشعه وجهله، وضد كل محاولات وأشكال القتل والدمار التي يرتكبها الإنسان مقرباً إنسانيتك من جذورها نحو التضامن والتوافق والوفاء! للبعض قد تبدو القصة آسرة لأسباب اكثر عمقاً في ذاكرتهم، تلك الذاكرة المأسورة برغبة التحليق إلى سماوات أخرى، وبأشواق الهرب الى فضاءات أرحب بعيداً عن الخلافات والصدامات والصراعات المدمرة حيث الإنسان لا يدمر الطبيعة ويلوثها ليقتل الطيور والنوارس البيضاء فقط، وإنما ليقتل أخاه الإنسان بأكثر من طريقة! قد يبدو سبولبيدا مثالياً وطوباوياً وهو يحقق معادلة وحدة الكائنات والكون في عالم شرس متصارع ومتقاطع المصالح، إن الحيوان (القط ثورباس) يعلم الطير (النورس) الطيران، ويحتضنه ويرعاه ويحبه ويعده ثم يبذل أقصى ما في وسعه ليفي بوعده حتى وان كان ذلك الوعد يسير في خط متعارض مع طبيعته الحيوانية، لكنها الطوباوية المطلوبة وبشدة في الأدب تحديداً، حيث الأدب في نهاية الأمر تراكم المعرفة الإنسانية لتحقيق حلم المحبة المشروع. في عمله الإبداعي هذا، يحقق سبولبيدا أمرين، يصنع رواية عالمية ناجحة، يحقق فكرته، فكرة انتصار السلام ، والانحياز للجمال ضد القبح، ان سبولبيدا من خلال قطه ونورسه يصرخ في هذا الإنسان الشرس بأن يكف عن شره، فحين يختنق العالم لا ينجو أحد، وحين تموت النوارس وتتلوث البحار فإن الخسائر تكون أكبر مما نتخيل!.