في العام 1789 وفي باريس تحديدا، أطلت ملكة عظيمة تهتز لها جنبات فرنسا إذا تحدثت وإذا أمرت وإذا حكمت... أطلت على جموع الباريسيين الجوعى والذين انهكهم الجوع والمرض والقهر والظلم، أطلت من شرفة قصرها المترامي الأطراف لتسأل بغباء القوة حين تتعامى عن مصائر البشر ومآل الشعوب إذا أصابها القهر، لماذا يحتشد هؤلاء الناس تحت قصري ؟ فيجيبها أحد المنافقين من بطانتها وبطانة القصر أنهم جوعى يطالبون بالخبز ؟ فإذا بها تلقي عليهم قنبلة سرعان ما ارتدت إليها لتمحو أثرها من الوجود، قالت لهم بسخرية مريرة: إذا لم يتوافر لديهم الخبز فليأكلوا البسكويت إذن !! فكان الخبز سببا في سقوط الامبراطورية الفرنسية ونهاية عهد أسرة البوربون التي حكمت فرنسا قرونا طويلة، لم يكن الخبز سوى الشرارة التي فجرت قهر المقهورين والمظلومين والذين يرون مواكب السادة والنبلاء والمترفين تجوب طرقات باريس بعربات مذهبة تمتلئ بأناس ترهلوا من التخمة وتضخموا من النعم التي يغرقون فيها بينما يغرق الشعب في الضرائب والفساد والجوع ويتحمل تكاليف حروب الامبراطورية فيما وراء البحار. وسيقت الملكة ماري انطوانيت إلى المقصلة هي وزوجها الملك لويس السادس عشر، وسط هتافات الجميع بعد أن دخلت باريس وفرنسا كلها في أعمال شغب وفوضى وحرائق وتخريب لا مثيل لها إلى أن استقرت بعد زمن طويل من الفتن التي أعقبت السقوط، لتعترف فرنسا فيما بعد بأن الحرية والإخاء والمساواة هي مبادئ الحكم الصحيح. لكن فرنسا الحرية والمساواة حادت عن مبادئها يوم دخلت في سباق الاستعمار والسيطرة على شعوب العالم وكأن الحرية والمساواة حقا حصريا لشعوب دون أخرى !! بعد قرون طويلة من ثورة الخبز في باريس، أقدم شاب تونسي من أرياف تونس بالكاد قد أكمل تعليمه على إشعال النار في نفسه قبل أن يشعل تونس بثورة عارمة أتت على كل شيء، لتغير وجه تونس إلى الأبد، فالقهر الذي أحسه وهو يتسلم مخالفة وقوف خاطئ حررها ضده شرطي بسبب عربة الخضار التي يدفعها، هذا القهر قد تملكه تماما، وجعله يقدم على الانتحار حرقاً. ولأن الفساد قاتل، والفقر كفر كما قال الإمام علي، والجوع كفر، والظلم ظلمات، فقد انفجرت مرارات القهر في صدر الشاب الذي لم يكن يجد ما يأكله ليأتي شرطي متجهم فيطالبه بدفع غرامة وقوف خاطئ بسبب عربة خضراوات تختصر انهيار احلام الشاب وتمحق عمره تحت عجلاتها بينما بإمكانه لو أنه يعيش في دولة القانون والحرية والمساواة أن يكمل تعليمه ويلتحق بوظيفة هي حقه الذي يكفله له الدستور وكل القوانين. أراد ان يكون الشرارة فكان، ولم يذهب دمه وعمره هدرا، لقد تحول إلى أيقونة ثورة حقيقية، سيتلو إعلامنا العربي نتائجها في قادمات الأيام، شريطة ان لا يحيلنا هذا الإعلام إلى حقائق ووقائع تلفزيونية تجرد الناس من حقهم في انتساب الثورة لهم وتعزوها إلى جهات دعم خارجية تمسرح الحكاية وتتلفزها وتمتص رحيقها وشهقة الحرية فيها. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com