كانت أول مدرسة في العين في الستينيات “النهيانية” عبارة عن ست غرف، وحين تضيق بالطلبة الجدد تبني لهم عرشاً في ساحتها، كراسي الصف كانت مقاعد خشبية طويلة مشتركة، ولأنها المدرسة الوحيدة كنت ترى فيها الطلبة متفاوتي الأعمار، وبعضهم تجاوزاً نسميهم طلبة، لأنهم في حقيقة أعمارهم يتساوون مع حارس المدرسة، وبعضهم ظل يكبر في صفه “سنين ومنين” وفي يوم وقع حادث اضطر الطلبة أن يخرجوا جميعهم إلى الساحة التي كنا نجتمع فيها مرتين، مرة في الطابور الصباحي، ومرة في الفسحة أو الفرصة، والسبب أن ذاك اليوم، خرج بعض الطلبة الكبار عن مرحهم إلى مزح ثقيل، كنا نتزاحم على ذلك المقعد الخشبي المشقق بالأربعة والخمسة حسب الأحجام، الصغار في الأمام والكبار في الخلف، طلبة أحد هذه المقاعد الخلفية ربما تشاجروا في الحارة أو الساحة ودخلوا الصف ولم يقدروا أن ينهوا عراكهم، فقام أحدهم ووضع سكيناً مغروزاً بين شقوق المقعد، وجاء زميلهم وجلس على السكين فانغرزت في باطن وركه، وصرخ تلك الصرخة التي جعلت المدير يخرج من غرفته قبل أي أحد، وإلى أن أخرجوا السكين من ورك الطالب، وكان سميناً ممتلئلاً، كانت الأرض الأسمنتية مغطاة بدم أحمر جعل الطلبة الصغار أمثالنا يرتعبون، ومن حسن الحظ كان مستشفى كند القديم لا يبعد عن المدرسة إلا عشر خطوات، فتم إسعافه. منع طلبة ذاك الصف من الخروج، وفي ذاك الزمان لا تحقيق شرطة ولا حتى إخبار الأهل ليتدخلوا، صفّنا المدير، وطلب منا الاعتراف أو الإبلاغ عن الفاعل، ولم يجسر أحد منا النطق بشيء، ووصل الحد إلى العقاب العام، بعد أن عزلونا نحن الصغار لأننا لا يمكن أن نفكر بفعلة مثل تلك، وأبقوا على الذين شواربهم بدأت تطرّ، وتخضرّ، وكانوا ربما ثمانية أو تسعة، وأمرهم المدير بالخروج إلى الساحة، وجاءت عين المدير في عيني، فقلت: ربما يأخذوني معهم، وكدت أهدل برطمي استعداداً لصياح لن يتوقف، ونهرني المدير، وقال: أذهب إلى غرفتي بسرعة البرق، وأحضر الخيزران، فناظرت في عيون المتهمين، ورأيتها ساعتها كلها كالشهب، وكدت أبكي لأنني سأنضرب منهم حتماً، وتكون الرهوة على المربوطة، فتلكأت، وإذا بلطمة من المدير لامست كتفي، رغم أن الغز كان جاهزاً، وأي حركة باليد لا تخطئه، أحضرت العصىّ، وتجمهر الطلبة، وبدأت العصيّ نازلة كأصوات الصبيب، ورأيت يومها أطول تلميذ ودموعه تهطل، ولا أدري من اعترف يومها، لكن المدير رشهم كلهم بالعصيّ لين قالوا بس، حتى المطعون لم يسلم، وحدي أنا بعد تلك الحفلة، وضعت طرف كندورتي في فمي، والطريق من المدرسة إلى بيتنا والذي كان يأخذ مني أربعين خطوة، اختصرتها إلى النصف!