لن نختلف وإن اختلفت “البقعة اللي طْـحْـنَا فيها”، وأماكن نشأتنا، على أن الخاص في حضارتنا هو ذلك الذي يربطنا ويعقد الربطة “زين إما زين”، بيننا وبين الواقع والمعتقد وأفكار الليل والنهار. لقد لفت انتباهي عندما قامت ابنة أخي ذات السنوات الخمس بتعديل نعالها المقلوب الذي بعثر انقلابه تركيزها، وهي تهم لتسلم “همباة خنينة”، فأهملت يدي الممتدة، وهرولت لفعلِ ذلك ثم عادت مسرعة لتقف أمامي، كما يفعل الجنود في الصباح، وسألتها: “شّ ياك ربعتي؟” أي مًا المُـلِحُ في الأمر؟ فأجابت “بركادة”: “عموه، تبغين الله يحفينا”. فحمدت الله على كلمتها الاستراتيجية والمؤكدة لاستمرارية تلك المفاهيم والقيم التي تغوص بنا إلى أعماق الدين، وتحترم فتات الخبز والنعم. وهمست في خاطري: “نعم، نْـوَبّْــل و نروم، وسنظل نرصد هذه التفاصيل، فبدون بذور لا تُـجْـنَـى ثمار”. تجتمع أسرتي الممتدة يوم الجمعة، ولايُسمَحُ لأي فردٍ أن يغيب بلا تصريحٍ أو إذن شرعي، توافق عليه لجنة شؤون العائلة. وفي هذا الاجتماع يُقَـبِلُ الصغير كبير القوم ويكرمه ويخدمه، وتتآلف القلوب، وفي الجمعة المنصرمة سأل أحد الفتية قريباً تواصل معنا لإننا من أرحامه، وفي قلبه لنا مودة: “هاه بو شهاب شو مسوي؟” فأجابه العزيز: “عيش وصالونه”. فخجل السائل واعتذر عن خطئه: “اسمح لي ياخويه، عنيت أنشدك جيف حالك، وجيف انته؟” فنظرت إلى الطيار محمد بالخير، وضحكنا خلسة، لأننا كنا متأهبين وبالمرصاد لاحتواء هذا الخطأ الذي أتنزه عن إعطائها أي صفة. وهمس محمد: “كم بَـنُـوَبْلّْ؟” فقلت بتأكيد وإصرار: “نْـوَبّْــل و نروُمْ”. وبعد غداء الجمعة، وعند خلوتنا المفتوحة للضحك حتى البكاء، جاءت تلك الطفلة منتدبة من قِـبَلِ المجموعة كمتحدثٍ رسمي، وقدمت طلب: “عموه، ممكن نسير البارك؟” فأجبتها: “لك أن تختارين إما التحدث بالإنجليزية أو بالعربية، ومن المحرم في بيتنا خلط اللغتين”. فتلعثمت وأبدلت الكلمة الأجنبية بحديقة. فقلت لها بمكرٍ ودهاء: “لا، هذي مب حزة لعب مـَحَّد يلعب في ها الحموة، ترى بتـيِّكمْ “حمارة القايلة”!”فخرج من وراء ديكور المجلس مبتعثيها ووقفن يتساءلن بصوتٍ واحد: “عموه، خالوه، ماما عائشة منوة حمارة القايلة؟” فقلت بشجاعة: “هي وحش يسرق الأطفال الذين يخرجون للعب وقت الظهيرة”. وعقب ذلك انهالت علي الأسئلة، وكأنني في مؤتمر صحفي لتوقيع صفقة مع فريق ميلانو. وطلبن مني شرح شكلها ومعلومات عن مقر سكنها، وهل لها أسرة كاسرتنا وإخوة وأخوات من البنين والبنات. فوهبتهن ما لَـخَصَ الحوار وحَـلَقَ به من أطره النظرية إلى التطبيقية فقلت: “اللي منكن تبى تشوفها تظهر في الحـوُّيّْ وتلعب”. فقالت حاذقة: “عموه، حمارة القايلة وحدة والا أكثر؟” فقلت لها بكبرياء وثقة: “نعم، هيه وحدة بس تْـوَبّْــل وتروُمْ تزخ البنيات اللي شراتكن”. فألقت عليّ نظرة حاسمة وسؤال: “وعيال الإنجليز اللي يلعبون الظهر على البحر يوم الجمعة، ليش ما تزخهم؟” فقلت في خاطري: “يا إلهي، كنا نمتص الخيال ولا نجادله وإن وضحت صور الحقيقة ومعتقدنا المتداول هذا جاء بنية صافية من الأجداد لغرض حماية الأطفال لا تشويش أفكارهم. سنتداول ونُـدَوِنُ تلك الحكايات فهي بريئة وجزء منا لأننا نـوَبّْــل و نروُمْ”. bilkhair@hotmail.com