كيف أتينا للحياة وكيف عشناها، ماذا حققنا، وماذا خسرنا؟ ما الذي يمكننا القبض عليه بعد في متاهات الزمن الآني، وما الذي تسرب من بين الأصابع إلى غير رجعة؟ كيف أصبح أحدنا على ما هو عليه؟ ليس لأنه أستاذ جامعة أو طبيب أو وزير، لكن كيف أصبح بهذا التشكيل الإنساني والاجتماعي والذهني الذي عليه الآن؟ لماذا يقع في هذا المكان وليس هناك، حيث يجب أن يكون؟ هل اختار ما هو عليه أم أن حتمية القدر هي التي صممت مواقفه وهندست حياته على الهيئة التي انتهى عليها؟ أقول ذلك لأن البعض يهوى إلقاء كل شيء على القدر، بينما آخرون يعتقدون أنها أسئلة تبدو ضرورية جداً.
لفت نظري جملة قالتها زوجة الممثل الأميركي الشهير دنزل واشنطن في حفل جوائز الأوسكار، حيث كان زوجها يتسلم جائزته كأفضل ممثل، يومها قالت زوجته “أن يولد الإنسان ذكراً أو أنثى، فذلك قدر ليس له فيه قرار أو اختيار، إنها مسألة بيولوجية لا أكثر، لكن أن تكون رجلاً في حياتك وفي خياراتك ومواقفك، فذلك قرارك، ولقد قرر دنزل أن يكون رجلاً بجدارة وليس مجرد ذكر ...”.
وبين يدي منذ أيام كتاب من نوع السيرة الذاتية لأحد أشهر الكتّاب الأتراك “عزيز نيسين “، الذي ترجمت أغلب أعماله إلى العربية، وعرف بأسلوبه الساخر، إن سيرة نيسين الذاتية في طفولته جعلتني أستحضر مباشرة سيرة الأديب الروسي الكبير مكسيم غوركي، حينما كتب عن تلك الذكريات المفعمة بالحياة والزخم الإنساني والصور الحارة من خلال حكايات وشقاوات الطفل مكسيم مع جدته في كتابه “طفولتي”.
يقدّم نيسين في “هكذا أتينا إلى الحياة” جزءاً من ذكريات تلك الطفولة، بتفصيلاتها الكاملة دون إخفاء ما يجب إخفاؤه، أو ما يتعمد الكثيرون غض الطرف عنه من العيوب والأخطاء والكذبات، ولهذا فإن الكتابة الذاتية في العالم العربي لا تحظى بتلك الشعبية أو الشيوع كبقية الأصناف الأدبية أو الفنية الأخرى في الكتابة، لأننا من المجتمعات التي لا تفضل الحديث عن أسرارها أمام الأغراب، تماماً كما غضبت عمات التشيلية الرائعة ايزابيل اللينيدي حينما كتبت عنهم في كتبها المختلفة على اعتبار أن للخصوصية قدسيتها لدى بعض الشعوب، والعرب أكثر هؤلاء!
كلنا جئنا إلى الحياة كي نعيش سعداء أكثر من أن نتخبط في الأوجاع والنكبات، هكذا يقول نيسين! ولذلك يبدأ مذكراته بتحية جميلة لأمه يقول لها: “أمي يا أجمل الأمهات، أنت أجمل الجميلات، تزوجت في الثالثة عشرة، وأغمضت عينيك عن الحياة قبل أن تعيشي، أنا مدين لك”.
حينما كتب مكسيم غوركي عن طفولته، ظن أنها لن تهم أحداً، لكنها استوقفت كل القراء عبر العالم، لأن فيها شيئاً من كل واحد منهم، وحينما كتب نيسين ذكريات طفولته قال: “أعلم أن ذكرياتي لا تحمل أهمية، وربما تسترعي الانتباه، لأنها تحاكي الكثيرين في طريقة عيشهم وكفاحهم”، وقد كان محقاً!
يتحدث نيسين عن أشياء كثيرة مرت به، وعن مسالك قاسية وصعبة سلكها كي يعيش، تحت ضربات السياط وظلمات السجون والأحداث، ومع ذلك يقول: “إن كل الأحداث التي دونتها جعلتني مديناً لمجتمعي بوجودي المادي والمعنوي، أما أولئك الذين ضربوا بسياط جبروتهم ونفوذهم الأبرياء والضعفاء والتعساء كي يرضوا غرور قوتهم، فلن يستطيعوا أن يقولوا (هكذا أتينا للحياة)”.


ayya-222@hotmail.com