يبدو ضيفا ثقيل الظل، تود مغادرته سريعا رغم كل الدروس العظيمة التي يطرحها أمامك، ورغم كل القوة التي يمنحك إياها، ورغم زخم العواطف التي يجترها فيك فتتجدد خلاياك لتصبح وكأنها تولد للتو. انه “الغياب” الذي يحضر بقسوة أمامنا في عتبات الحياة، فتجده يبتسم لك باستهزاء لأنك انشغلت بكل شيء تقريبا، وتعلقت بالآخرين كثيرا، فيما تجاهلته تماما، ليخبرك الآن أنه حاضر وليس أمامك إلا ان تجد طريقة مناسبة، لتتعامل معه.
عندما يغادرون، يحضر “الغياب”، بكل فراغه الجلف، ليسأل عن قدرتك في استيعابه، والتعامل معه كواقع لا مناص منه. فتلك المشاعر الجياشة التي تنتابنا وقت مغادرة الأحباء، لا علاقة لها بهم؛ ففي أصلها مشاعر خاصة سببها متعلق بعدم قدرتنا على استيعاب ذلك الفراغ الجديد؛ عدم القدرة على احتمال الأصوات بدون رنين ضحكتهم، واستيعاب الوجوه بدون ملامحهم، واحتمال المكان بدون نسمات عبورهم.
???
يفرض “الغياب” قدرة عالية على ترويض المكان، باستنهاض الجمال واستدعاء الفرح واستجداء الضحك وتوسل البهجة؛ على عكس ما يقوم به أغلبنا من الذين يلجأون إلى اجترار الماضي وإطلاق عناق الذاكرة للعودة إلى الخلف، فيصبحون أسرى ما فات، فيعطلون أنفسهم زمنا ليس بالبسيط من حياتهم.
كنت أتعامل مع الذكريات بأنها -في مجملها- تدفع للألم، سواء كانت حزينة مؤلمة بطبيعتها، أو ذكريات سعيدة، يأتي ألم تذكرها من انقضائها أو زوال سببها. لم اعد أذكر أين قرأت تلك الفكرة واقتنعت بها؛ ورغم حقيقتها وتأكدي منها، إلا أني وجدتها فيما بعد مدعاة للكآبة والبؤس، وهما حالتان آخر ما علينا أن نفكر في استدعائهما، فهما حالتان لا تحتاجان جهدا يذكر لاستجلابهما، فما بالك بجهد يعصر الذاكرة وينكش في زواياها القصية بحثا عن الساعات الهادئة والضحكات الماضية ومن ثم قلبها إلى آهات يخنقها الضيق وتهيجها الدموع لأنها مضت!
أعتقد أن هذا الرأي سيعجب أكثركم؛ وهو ما كان يروق لي كثيرا، حتى تبدل إلى النقيض بعد أن قرأت رسائل غازي القصيبي لزوجته في “الزهايمر” والتي خلصت منها أن السعادة الحقيقية تكمن في استيعابنا لكل الماضي بما فيه من مؤلم ومفرح، وأن السعادة الحقيقية هي التحليل النهائي ومجموع التجارب السابقة بحلوها ومرها. وأن ما يقال عن أن السعادة تتناقص كلما تقدمنا في العمر، هي مقولة غير حقيقية، لأن التقدم في العمر يعني كما أكبر من التجارب وذكريات أطول، وهو ما لا يتوافر عليه الأصغر.
بهذه الحجة، أجد في نفسي زهوا -لا يستسيغه الكثيرون- من الإعلان عن سني؛ ألا يحق لي أن أسعد بكل تلك السنوات التي مررت بها، وكم التجارب التي شهدتها بكل ضحكاتها ودموعها؛ فيما لا يعرفها آخرون أصغر مني، كما أنهم لا يعرفون، هل سيعيشون مثلي ليشهدوها.. أم لا؟!


Als.almenhaly@admedia.ae