ذات صيف في التسعين توزعت أفراحنا وأحزاننا وقناعات الذات على مدن عديدة، لم يكن صيفاً ينبئ بشيء مختلف، غير فرح متعة اكتشاف مناطق تحبها النفس، وغير الوعد الجميل الذي ننتظره من الأيام، عل شيئاً مفرح يقرع الباب، ويدلنا على الدهشة، أولى مدن ذلك الصيف المتقلب كانت بلغراد حينما كانت تلك المدينة هانئة، وحاضنة، وجميلة بكل أشيائها شبه البدائية، وأناسها الطيبين الذين لم يتلوثوا بشرور الحرب بعد، كانت صباحاتها ذات شمس باردة، بحيث تنسيك سير الوقت، ويمكن أن يسرق منك مقهى ساعات طويلة، ويمكن أن تنشئ صداقة عابرة في زاوية صغيرة على الرصيف، كانت البساطة ما زالت يومها في تلك المدينة، وهي التي تحرك الناس وزائريها، وتضفي على كل شيء معنى.
غير أن ذات مساء متأخر قليلاً، والمدينة ما زالت منتشية بثمالتها، ومازال هناك كحل من ليل وغبش من فجر، تزلزلنا بفاجعة دخول دبابات آتية من صوب جار إلى بيوت جار، وأربكتنا الأخبار التي تأتي متسارعة، وكنا غير مصدقين أغلبها، حتى ظهرت شمس بلغراد، وأيقنا نهارها أن هناك شيئاً غير عادي قد حدث، وأن كثيراً من الأكاذيب هي صادقة، وأن حرباً قد بدأت ولن تنتهي قريباً، وأن جرحاً في الصدر قد لا يندمل مطلقاً.
بدأت المطارات تزيد من ربكتها الصيفية، والعائلات لا تعرف لها وجهة محددة، والحرب أي حرب أول ما تفعله تجعل النقود أثمن من قيمتها، وتجعل النفوس في أضعف حالها، توجهت إلى جنيف كعادة غير دائمة لحضور ليالي كرنفالها الصيفي، ولأكون قريباً، وبعيداً عن الأخبار التي كانت تبثها إذاعات المعسكر الشرقي الرسمية، في جنيف اختلطت في ذلك الصيف الأشياء والأحداث بصخب الكرنفال وبضيق ما حدث، وشقاق عربي وضجيج من حقد وتعصب ومصالح كانت تعتمل به الصدور العربية، في تلك الأيام كنا نسير في مظاهرات صباحية حتى مقر مبنى الأمم المتحدة في جنيف، وندخل مساء في نقاشات وتحليلات ما قد يحدث، كانت ليال ثقيلة وقاسية، والكل يضع يداً على القلب، ويداً على الجيب، تحسباً لأي مجهول قد يطرأ.
ولأن من رماد ساحات الحروب وأحزانها ينبري دائماً وجه يشق ببراءته كل ذلك الفساد والدخان، يأخذك بطفولته التائهة وسط تلك السحب الرصاصية بحثاً عن فراش ملون أو زهر عطشان أو تتبعه أنت كظله، خوفاً عليه من حديد قد ينغرز بين ذلك اللحم الآدمي والعظم الطري، تراءى لي في مساء جنيف ذلك الصيف وجهاً حورياً كأنني أعرفه من قبل أو كأنه هرب من أيامي فجأة أو كأنني ودعته عند أحد المرافئ في ليل ممطر وذهبت، ذاك الوجه الذي وجدته ضائعاً في صيف الحرب قدر أن ينقذني من لعنة الحرب!


amood8@yahoo.com