قضيت طفولتي المبكرة في منزل يطل على البحر تماماً، فكان البحر لعبتنا المفضلة، كنا نجري على شطآنه، نقذف أنفسنا في مياهه طيلة النهار، نلملم أصدافه ونجعلها ألعاباً نزين بها حكاياتنا التي نخترعها طيلة النهار، كان البحر غوايتنا التي تخشى علينا الأمهات من نداءاته الدائمة، لم يكن شيء آخر يخيفهن على الصغار غير البحر. في تلك الطفولة المبكرة لم تكن هناك أحداث مخيفة تلفت النظر أو تثير القلق، حتى جاء يوم أفاق فيه الحي على خبر جريمة قتل، يومها كنت أسمع هذه الكلمة للمرة الأولى، وركض الجميع إلى ذلك البيت المنزوي، حيث كان الحديث يدور عن رجل قتل زوجته ذبحاً بالسكين، وكانت العبارة التي بقينا زمناً نحاول تفكيك طلاسمها تلك التي تداولها الكبار، أن الزوج قد قتل زوجته لأنها كانت “تخونه”!! كصغار كان من الصعب أن نفهم معنى الخيانة، وعلاقة ذلك بالقتل، سألت والدتي فلم تجبني وسألت جدتي وجدي وخالي، فلم يتعطف علي أحد بالإجابة، كنت صغيرة جداً، لم أبدأ مرحلة المدرسة بعد، وتدريجياً تلاشت الحكاية، تلاشى الهمس وتوقفت عن طرح الأسئلة دون أن أفهم شيئاً عن الحكاية. اليوم وأنا أفتح الصحف يومياً، لا أكاد أفتقد فيها خبراً أو حكاية تشرح تفاصيل جرائم القتل، صارت الجريمة غذاء الصحف اليومية، وصار الذين يقتلون أكثر من الذين يكرمون ومن الذين يرقون، ومن الذين يفرحون وربما من الذين يولدون، والأغرب ليس خبر الرجل الذي قتل زوجته لأنه حين عاد وجدها في أحضان رجل غريب، تلك حكاية فهمناها فيما بعد، الأغرب حكاية الأم التي قتلت أبناءها، والرجل الذي قتل أطفاله وانتحر معهم، والشاب الذي قتل والدته ليسرق أموالها، أوجدته ليحصل على ميراثها، وحكاية الأم التي ألقت بطفلتها في النهر، والمرأة التي زجت بأطفالها الأربعة في سيارة مغلقة وسط البحيرة إكراماً لعشيقها، و•• و•• أي جرائم هذه؟! أهي جرائم حقيقية يرتكبها أشخاص حقيقيون يعيشون بيننا ويشبهوننا، أم أنها جرائم جرائد وصحف، جرائم افتراضية لا أكثر؟! وأعود لأتذكر بأن أول جريمة في التاريخ ارتكبها أخ ضد أخيه صراعاً على حب امرأة وغيرة من تكريم الله لأحدهما على الآخر، فهل هذا دليل على أن الجريمة وتحديداً جريمة القتل سلوك إنساني طبيعي وليس انحرافا ضد طبيعة البشر؟ ما زلت أعتقد بأنها انحراف ضد طبيعة البشر بالرغم من إصرار الصحف في كل الدنيا على إفراد صفحات للجريمة بكل بشاعاتها، واختراع ألعاب للأطفال تثير فيهم كوامن العنف والجريمة، وجرح براءتهم بمشاهدة أفلام تدربهم عمليا على العنف والقسوة واعتياد مشاهد الدماء والجثث والقتلى! في أفلام السينما يقتل الناس بعضهم في الشوارع، تتناثر الجثث وتلقى على قارعة الطريق، يقتل الرجال بالعشرات ودون أن يلتفت أحد، لأن الكاميرا تتابع البطل، وتلاحق حركته، فالمهم أن ينجو البطل الذي هو في الحقيقة ليس سوى قاتل، ألا يعتبر ذلك تمجيدا للقتلة ؟ نحن في أفلام السينما نصطف باستلاب سافر إلى جانب الجريمة والقاتل وسط بهرجة الصورة والموسيقى! ولم يعد أطفالنا كما كنا، يلعبون بأصداف البحر.. إنهم مساكين يعرفون عن الجريمة ويقوون على مشاهدتها قبل أن يبدأوا خطواتهم الأولى عبر بوابة المدرسة!! عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com