كثيراً ما يكون السجن داخل الجسد محفِّزاً على نوع معين من الإبداع والنبوغ والتفوق، إذا ما كانت النفس التي في داخل الإنسان قوية وتفهم الحياة وتقبل التحدي وتعشق الصبر، ولا تقبل الاستسلام وترفض الركون، فالنفس هي سبب الحياة الحقيقية، والجسد مظهر لها، ويتبادلان التأثر والتأثير، لكن الغلبة في النهاية للنفس إن كان المرء إيجابياً، وقدر أن يتغلب على شيطان الجسد المتخاذل، وإن كان سلبياً فإن قدر الجسد أن يسجن النفس، فتصبح الإعاقة حينها تشويهاً للنفس، وخجلاً اجتماعياً، وإنطواء قابلا للتدمير. فمن يرى بافاروتي بجسده “الكثير” ولا يسمع صوته الصادح، يتبادر إلى ذهنه أنه سائق شاحنة على الطرق الرئيسة بين مدن أوروبا، ينقل في شاحنته الكبيرة مواد غذائية، نابليون بالرغم من قصر قامته وانتمائه إلى جزيرة كورسيكا الصغيرة، قدر أن يغزو العالم، ويسوس فرنسا ويدفن في مقابر الخالدين، ويعرفه تاريخ البشرية، تشرشل كان يمكن أن يكون مشروعاً ارستقراطياً إنجليزياً وإقطاعياً كبيراً ويقبل بذلك، غير أنه لعب أدواراً مهمة في تاريخ الإنجليز وسياستهم، خارجاً من هيمنة الجسد والأوداج المنتفخة إلى جبروت النفس وقوتها، آينشتاين كان يمكن أن يموت مسلولاً لو قبل أن يهزمه الجسد وضعف بنيته، غير أنه غذى ملكته العقلية، ونهل من معين المعرفة، ليظهر للعالم والتاريخ بنظريته النسبية، بيتهوفن لو جعل أذنيه دليلاً يقوده إلى جمال النغم لما ألف سيمفونياته التي أطربت آذان العالم وحركت أشياء كثيرة في دواخلهم وعوالمهم، ببساطة•• كان أصما لا يسمع بأذنيه ما يدور في العالم، وحدها النفس كانت تقوده إلى أخاديد من التجلي والسمو والتحليق عالياً.?طه حسين لو ظل رهين محبس العمى، ولم تطر به النفس القوية لتعلم اللغات قديمها وحديثها، لما كتب مؤلفاته الكثيرة، ولما أحدث ثورته التعليمية والتنويرية، ومثله بشار بن برد والمعري والبردوني وعنترة بن شداد، لو كان كل واحد منهم ارتهن وسكن إلى سجنه الخاص، سواء سجن النظر أو سجن اللون، لبقي الثلاثة العميان مشاريع لشحاذين، يتصدق عليهم الناس عند باب المسجد أو في الأسواق، وكان ذلك الشاعر الفارس الأسود، أحد أغربة العرب غير صالح إلا للحلب والدر، لا للكرّ والفرّ.?بيل جيتس كان يمكن أن يكون مبرمجاً جيداً في شركة مالية ناجحة، لكن ثمة شيء حركه من مكانه الذي يقبل به الكثيرون - ما عداه وحده- كانت تلك القوة الكامنة في الذات هي التي تحلق به بعيداً، وتحلق بنفسه عميقاً، وحتى حينما اغتنى سما بنفسه شرفاً، ووجه ثروته نحو الإنسان، وشفاء أوجاعه، ستيفن هوكينج لم يمنعه الجسد المحطم كقطعة متخشبة، فاقد النطق، وتالف الأعصاب من نيل لقب “برفيسور لوكاسي” في جامعة كامبريدج مثل نيوتن! ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com