يحق للمنتصر أن يعبث بالمدينة ويعيث في شوارعها، لكنه لا يقدر على اغتيال ذاكرتها، يحق للمنتصر إن غزا مدينة أن ينهب ويسرق ويقتل، ويسن قانونه، لكنه لا يقدر أن يمحو ذاكرة الناس وتاريخ المدينة، في حالة الحرب يحق للمنتصر النشوة والبطش والغناء على الخرائب، أما وأن الحال في بغداد غير ذلك، ولا يستطيع أحد أن يعطيك نعتاً للحالة الراهنة، فهي بين مدينة خاوية من الجيش والشرطة وحرّاس القانون، وبين مرتزقة يأتون على متن طائرات أو يتسللون عبر الحدود المطلوقة أو ينبعثون من تحت ركام المقابر والأضرحة وعفن الطائفية، والكل يريد أن يقتص من المدينة، ومن ذاكرتها، ومن تاريخها، وخصوصية ناسها، ثمة حقد لا تعرف من ركبه في نفوس اللاعبين والمتلاعبين في ساحات بغداد الذين يريدون أن يفرغوا ذاكرتها التي ورثتها عبر قرون من الحضارات المتلاحقة! لعلني لم أشهد مدينة تزدان بالنصب والتماثيل الفنية الراقية والجداريات والمنحوتات المبثوثة هنا وهناك، مثل ما رأيت في بغداد، ولم أر نشاطاً للتشكيليين مثلما رأيت في العراق، لكن اليوم وبعد أن فنى الناس من القتل العشوائي، وضاعوا في الجهات من الخوف ومن الفساد ومن الفوضى، جاء الدور على وجه المدينة الجميل، ولأن هؤلاء الطارئين على بغداد وهم كثر، عشاق القبح، بدأوا في تحطيم الجمال في المدينة، وآخرها نصب “اللقاء” للفنان علاء البشير، ونصب “قوس سيف النصر” للفنان خالد الرحال، والذي يجمع تحته خمسة آلاف خوذة حقيقية لجنود إيرانيين. وكانت معاول الهدم قد طالت من قبل تمثال أبو جعفر المنصور باني بغداد، وتمثال الخليفة الواثق بالله، أما تمثال كهرمانة فقد فجرته سيارة ملغمة، وتمثال شهريار وشهرزاد في شارع أبو نواس بترت أطرافهما من خلاف، حتى شارع أبو نواس أرادوا أن يمحوه من ذاكرة الناس والمدينة وضفاف دجلة، وتمثال المتنبي جسروا على خدش هيبته، كما سرق تمثال الوطني عبد المحسن السعدون “صاحب الأربع وزارات”، وحطم نصب بلاط الشهداء، والأسير العراقي، وتماثيل الضباط الوطنيين في انقلاب مايو 1941 بقيادة رشيد عالي الكيلاني، ونصب المقاتل العراقي في ساحة باب المعظم، ونصب المسيرة في ساحة المتحف، وجدارية التأميم عند مدخل وزارة التجارة. أما البصرة وخرابها فلها ألف حكاية لعلها لا تبدأ ولا تنتهي عند تحطيم تماثيل القادة العراقيين الذين خاضوا غمار الحرب مع إيران، والمنصوبة على شط العرب، وهم يؤشرون بأيديهم إلى إيران.. مثلما تشير اليوم كل الأصابع لإيران وأعوانها في هذا العبث، بحجة “البعث” من أجل اغتيال ذاكرة المدينة!