“اسمع, لدي معلومات لا علاقة لها بهذا الموضوع، لا بد أن أطلعك عليها. ? من أي نوع؟ ? هناك شيء رهيب يحضر في مراكش! ? مثل ماذا؟ ? تفجير مروع! ? متى؟ ? لا أحد يعرف. ? عندما تقول معلومات، هل تقصد معلومات فعلًا عن الجهة والأشخاص والسيناريو. أم هي مجرد نبوءة؟ ? قليل من هذا وقليل من ذاك. إذا أردت أن تدخل في عين الاعتبار كوني أخاطبك من العالم الآخر فهي نبوءة، لكن إذا تخلصت من هذه الحدود الوهمية، فإنها معلومات لا ينقصها إلا التوقيت!”. هذا الحوار الخطير لم تسجله أجهزة الاستخبارات والرصد المشغولة بتتبع خيوط ومخططات الشبكات الإرهابية، وإنما كتبه بنباهة عالية الروائي والشاعر المغربي محمد الأشعري في روايته الجديدة “القوس والفراشة” (صفحة 146) الحائزة نصف الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) هذا العام. صدرت الرواية في العام 2010، ومن المفترض أن يكون المؤلف قد أنجزها قبل أشهر من صدورها، أي قبل التفجير الذي وقع بمقهى “الأركانة” في ساحة جامع الفنا بمدينة مراكش بسنة على الأقل. وكأن الرواية، بما تستبطنه وبما تستشرفه عن أحوال المغرب، تجعل من الواقع المعيش مادة خصبة للخيال الروائي، الذي استطاع محمد الأشعري تقديمه بصياغة مغرقة في سحريتها مرة، وموغلة في تقريريتها دائماً. من خلال حوار متوهم بين الأب، اليساري القديم الخائب، وابنه المقتول في عملية لتنظيم “القاعدة” في أفغانستان، يسوق المؤلف معلومات _ أو إخبارية _ عن تفجير متوقع في قلب مراكش القديمة، لكنه في واقع الأمر يجعل من إخباريته تلك وثيقة عن تحولات وطن توطنت فيه الحضارات، ودالت عليه الدول، وعصفت به التيارات، ونهشته الأطماع. يتوسل محمد الأشعري في “القوس والفراشة” كل فنون الكتابة المعروفة، لكي يعد وثيقته تلك على أكمل وجه. فهو ينجز حيث ينبغي تحقيقاً صحفياً موثقاً عن أحوال النهش الاستثماري الذي يطيح بالتراث المعماري لمراكش، وغيرها من المدن المغربية. ويتعمق حيث ينبغي في بحث تاريخي عن التداخل الحضاري في تشكيل هوية وطنه. ويقارب حيث ينبغي إحباطات وارتكاسات أبطاله بأسلوب فرويدي. ويمتح، حيث ينبغي من مخزونه الشعري لكي يصيغ نصاً، متوتراً، نابضاً يغري القارئ بالدخول إلى آفاقه. لمن يعرف المغرب، فقد كتب محمد الأشعري نعياً عصبياً لوطن يقدم فن الفسيفساء المنتشر في صروحه المعمارية أجمل وأصدق صورة عنه. تزداد انسجاماً كلما ازدادت تنوعاً، وتأتلف في تداخلات هندسية عبقرية، كلما كثرت تفاصيلها ومفرداتها. لكن هل كانت هذه الصورة تجد اكتمالها في مصيرها الذي ينعاه الأشعري؟ هو يلخص فكرته بسطر واحد مكتنز بالدلالات القاسية: “أنا الدولة الوحيدة التي رآها مؤسسها ورشاً وأطلالًا في نفس العهد” (صفحة 178). لكن هاجس محمد الأشعري، كان أن يجعل من مساحة نصه متسعة لكي تستوعب في إداناتها الكثيرين، وقد نجح في حشد الإرهابيين والمستثمرين والشارين والبائعين والمرتشين والمنتفعين في نص واحد.. والأهم من كل ذلك أنه استطاع بحس المهموم بتفاعلات الوطن أن يقرأ طالع الأيام، حتى ولو كانت بحجم تفجير إرهابي في قلب مدينة عريقة. كأن “القوس والفراشة” تقول للحكام وللسياسيين وللأمنيين، لا تثقوا بتقارير أجهزتكم الاستخبارية.. اقرأوا نصوص مبدعيكم الأصيلة. اقرأوا محمد الأشعري. adelk58@hotmail.com