ذلك الذي يقف مشدوهاً أمام الكتاب. ينتشي لصفو بياض الورق. يصغي إلى بدء الحرف، لعله يجد لغة تختزل العقل، هكذا هو السبيل نحو القراءة، لا يقل عن أي عمل جسيم في حاجته إلى تأهب حقيقي يضعك بجسارة أمام الحروف. تلك التي تأخذك نحو مدار الأفق لتنير الدروب الممتدة، ولتمزق جنبات الظلام... بها يتسع مشهد الحياة لتبدو الصورة الخلابة أشهى وأجمل، ولتحف بروح سموها وعلوّها روح عاشقها فيتواضع، والتواضع سمة كل من له علاقة بالقراءة. القراءة فعل جمالي حقاً، إذ إنها تهب صاحبها حضوراً وشموخاً متأصلاً في كل التفاصيل، علاوة على الإدراك العالي للحياة، وملئها النفس الإنسانية برسائل متجددة ومعان عظيمة. فضلاً عن بنائها العقل على الجمال والصفو ومحبة الضياء. أما في لغتها فالقراءة تشبه لوحة من الفتنة المبنية على الفكر العميق والقيم الخلاقة ناهيك عن معرفة من أبدعوا بحق، وتركوا للبشرية قطوفاً من العطاء الإبداعي في مجالاته كلها، فشكلوا معاً نسيج الحياة عبر العصور والدهور، ووهبوا للأمم جزءاً مهماً من تاريخها وحضارتها وثقافتها. والقراءة ملاذ، يلوذ به الإنسان من تعب الحياة، لكنها هي الأخرى تلوذ بنا أحياناً، هاربة من ضيق الإطراء الممل الذي يحولها عن ريتمها الجميل إلى ريتم ممل ومكفهرّ. هي تهرب إلينا لتجد عندنا نسيجها المتناغم المتأصل في حضورنا ووجداناتنا، فالإنسان المسكون بالقراءة دائماً يؤطر نفسه على التحرر من شوائب الحياة، ودائماً ما ينشد فضاء ثقافياً حراً ونقياً. فالقراءة المقترنة بالوعي الثقافي كثيراً ما تهذب النفس، فيتجسد الوعي في مواقف الحياة المختلفة، في الحديث والرؤية وفي الممارسات المختلفة التي يتحلى بها القارئ الواعي مما يجعل المرء فاعلاً في المجتمع، صاحب رؤية وهدف، وله نسق مختلف في الحضور، وقادر على التعامل مع كل أطياف البشر. يدرك القراء الحقيقيون أن الجماليات والفوائد والمنافع التي تتحقق بالقراءة لا حدَّ لها، وما الكلام السابق إلا بعض من بركاتها، أو هو غيض من فيض عطائها. شريطة أن تكون القراءة خلاقة، وليست القراءة التقليدية من أجل استدعاء النوم. هذا النوع من القراءة كلما اعتاد عليه المرء يصبح نهجاً حياتياً لا يمكنه الفكاك منه. بيد أن ما يحز في القلب، ويؤلم النفس، أن تسارع الوقت وحياة العجلة فتكت بالقراءة، وأبعدتها عن مساحة الممارسة اليومية لدى غالبية الناس، ورغم كل هذه المنافع التي تؤمنها لنا لا تجد القراءة آليات تشجع الناس على المواظبة عليها، بحيث بتنا نتحدث عن غياب القراءة عن حياتنا، وعن كوننا أمة لا تقرأ... والحال، لا بد من إحياء القراءة، لأن في هذا ما يعطي صدقية للحراك الثقافي الشامل، ولا شك في أن إيجاد مهرجان للقراءة تخاطب المجتمع وتحد من الجهل أمر في غاية الأهمية، بل وفرض واجب لا بد من القيام به.