أن تكون مبدعا، هو أن تشكل وطناً خاصاً من جمر الأرق وضجر الوقت.. وأن تكون مبدعا وتفترسك هواجس اللا وطن، هو أن تقاوم الانتحار يوميا بمورفين الكتابة.. وأن تكون مبدعا وتشعر أنك تعاني نقصا في المورفين ذي النوعية العالية المتطورة والمبتكرة، هو أن تبحث عن أدوات ماكرة جديدة ولغة لئيمة جدا تنقذك من تفصيل كفنك، وحين تستنفد كل شيء فإنك أمام حلول عدة منها: الإدمان على الغياب، أو الغياب في الإدمان، أن تعشق امرأة فاتنة تثير فيك الفتنة يوميا فلا تكاد تلملم نفسك حتى تبعثرك من جديد، أو أن تنتبذ مكانا قصيا، أو أن تصبح ناسكا تبحث في الما ورائيات وتقنع نفسك أن هذا العالم المادي ليس لك، أو أن تنهي حياتك بطريقة فذة؛ كأن تبقى تصرخ على مدار الساعة حتى تنفجر شرايينك وتخرج عيناك من وجهك، أو تركض بشكل متواصل إلى جهة لا تعلمها، أو تشاهد الإعلام العربي 48 ساعة متواصلة، أو يرأسك من هو أدنى منك علما ومعرفة وثقافة ولباقة وإنسانية وعراقة وأصلا وأصالة لشهر واحد فقط، أو أن ترمي اسمك من شرفة في الطابق العشرين وتتبعه. أحاول منذ أن بدأت في طرح أسئلتي أن أفهم معنى الوطن: ماذا يعني أن تكون مواطنا في وطن ما، ما معنى يقظتك الصباحية، وذهابك للعمل، وعودتك للقاء أفراد أسرتك؟ ما معنى المساء والليل والسهر؟ ما معنى النساء والحب والعشق؟ ما معنى الصداقة والأناقة؟ ما معنى اللغة المتداولة؟ ما ألوان الأحلام؟ وكيف تعرف أن هذا الإنسان من وطنك، هل من رائحته أو لغته أو ابتسامته أو قلبه أو طاقته؟ وما معنى المستقبل والأمل والأمنيات؟ ما معنى أن يكون لك أطفال وبيت وحديقة؟ ما هو مذاق الشاي والقهوة في الوطن؟ ما معنى الموت في الوطن، وهل يختلف عن الموت في الغربة؟ كل ما سبق سؤال واحد، كنت أرى إجابته في ذاكرة أبي، حين كنا ننفرد بالغربة، ويتحدث لساعات طوال، عن أصدقائه وقصة كل شبر من أرضه، وعن شقاوته ومغامراته، وكنت أنصت لساعات أطول، وجدت إجابات على سؤالي ولم أشم رائحة الوطن، رغم أنني كنت أراه أحيانا على هيئة أبي وعمق عينيه وعصبيته وهدوئه، وأحيانا كنت أراه على هيئة أمي وهي صامتة كتوقف الزمن. هل وجدت الوطن في القصيدة؟ الشعر مورفين حروف تتحرر من سجننا لتصبح أي شيء غير الوطن، لو كان الوطن في اللغة لماتت الغربة. هل وجدت الوطن في الرواية؟ السرد مهما امتلك من قوة النفاذ يبقى عباءة يغلف جسد الوطن، الوطن ليس كتلة بل تفاصيل يرسمها كل منها على شاطئه الخاص. هل نوهم أنفسنا إذن حين نتجرأ وندّعي أن الكتابة وطن؟ نعم، خذوا كل الإبداع يا سادتي، وامنحوني ساعة أطارد فيها فراشة في وطني، ولا ألتقطها. akhattib@yahoo.com