بطرافة فائقة وسخرية مبطنة يسرد الراوي في عمل الكاتب والمترجم العراقي علي عبدالأمير صالح (“أرابيسك” ـ دار أزمنة 2009) حكايات نساء دخلن عيادته مريضات ليخرجن منها عاشقات مولهات به، بينما هو يمارس رغباته في الإيقاع بهن ووضعهن رموزا للذكرى يعود إليهن في فراغه ليتأمل قصصهن المختزنة في مرايا صغيرة عليها آثار شفاههن، فتصل إلينا الحكايات مصحوبة بدراسة نفسية لأعماق النساء الكثيرات اللواتي مررن بالعيادة لإصلاح أسنانهن وتخريب حياتهن. الراوي في مقاطع الرواية الثلاث عشرة لا يكف عن الاعتراف بذنوبه تجاه نسائه اللواتي يحبهن بهوس لا يعادله سوى حبه للآيس كريم والموسيقى. خمسيني مستوحد خارق القدرة على صنع الألفة مع مريضاته الحسناوات، وكسب ودهن وقيادتهن إلى مغطس الحب في عيادته، أو مختبر اللذة في مسكنه، ليلهو بمصائرهن مفتخراً بأنه وراء جنون إحداهن بعد تطليقها، وانتحار الأخرى، وهجرة الكثيرات خارج الوطن. الراوي لا يخفي التباهي بفحولته وجاذبيته. إنه المجرة التي تدور أجرام النسوة حوله، يحركهن ويصنع لهن المصائر والنهايات عبر عشرين مرآة يصفها بهيئة أشعة تنطلق من مركز طاولته لتنثر الحكايات المسترجعة عن نساء عبرت أجسادهن العيادة التي صوّرها العمل كعالم مصغر تدور فيه قصص الغرام والمؤامرات والمناورات والصراعات أحياناً.. صراعات للفوز بقلب حكيم الأسنان المكتنز بالفصاحة وإجادة فن الغزل بحسب هوى المرأة: “حين ألاطف امرأة أجعلها ترقص طربا وتثب مسرورة.. لا بل أفجر فيها ينابيع الأفراح البشرية واراها تقفز في الفضاء”. قد تكون مثل هذه التصريحات المباشرة إعلانا عن نرجسية مرضية تكمل شخصية الحكيم في سلسلة طبائعه المتخفية، وقد تكون انعكاسا لاستحواذه على السرد الذي يسيره أحداثا وإيقاعا ونهايات كما يشاء، لكن قليلا ما يخرج من العيادة وسجل النساء كما يتراءى في مراياهن ليتابع حياتهن دون أن يخفي ظله هنا أو هناك في جزئيات يومياتهن كاستحواذ إحداهن على خطيب الأخرى أو برودة زوج إحداهن ومشاكلها معه. ليس مصادفة إذن وجود المرايا لدى الحكيم الخمسيني المثقف، يعرض في تداعياته كِسَرا من قراءاته بلغات مختلفة في الأدب والأسطورة والتشكيل والتاريخ والسينما.. فالمرايا التي تقوم بعملية المضاعفة والتكبير أو التقريب إنما هي نتاج نرسيسي بجدارة لا تسمح بغير تأويل مرضي لتصرفات الراوي وأفعاله. تسمح القراءة باختبار عنصر المطابقة بين الكاتب والراوي: تخبرنا بطاقات التعريف أن الكاتب والراوي خمسينيان يعملان في المهنة ذاتها، وهذا سمح بتأثيث العمل ببعض اكسسوارات العيادة وتقاليدها، ويعزز ذلك سجل نتاج الكاتب، وعشق الحكيم في الرواية لتدوين ما يتصل بمريضاته العاشقات، واستهلالها بفصل قصير عن الكتابة كتجربة، وعما يدونه قلم الرصاص المسيَّر بمشيئة الراوي الذي يقول إنه رجل عاطفي وأن النساء هن اللواتي يأتمنه على أسرارهن، كما تستكشف آلته فضاء أفواههن تستكشف آلته الكتابية شخصياتهن وحكاياتهن على بياض الورق.