أما بعد، فلا شيء يستحق الذكر... هذه العبارة التي تفرض نفسها عليّ اللحظة، مقصيةً كل الجمل والعبارات المتدافعة نحو ساحة الورقة البيضاء، ذات الخطوط الخضراء مع خط عمودي أحمر، يقسم الحلبة من الأعلى إلى الأسفل، ويتجه بثقة المقاتل نحو لا نهائيّة الفراغ، لا نهائية الشوق. لا شيء لدينا يستحق الذكر. ربما يأتي الجواب، ولدينا أيضاً. بمعنى أن الأمور التي تجري على وتيرتها الحياة، صارت من النوافل والعادات النمطية، فلا تستحق الذكر والتسطير. لكن حتى ولو شملت هذه الأمور والنوافل، مسائل مثيرة ومرعبة كالمذابح والانتحارات الفردية والاجتماعية (حتى الحيتان صارت تنفق جماعات بما يشبه الانتحار الجماعي) والزلازل والبراكين! فهذه صارت أيضاً من ثوابت العادات ونوافلها. لا شيء يستحق الذكر، أتذكر هذه العبارة منذ الطفولة البعيدة حين كان الأهل يتبادلون الرسائل المكتوبة، بين القرى والدساكر والمدن البسيطة، بالخط التقليدي المتداول، والقلم والمحبرة. مسافات ضوئية قطعها العقل البشري، منذ تلك الفترة التي لا تزيد عن الأربعين عاماً، لكنها تبدو كقرون بالنسبة لهذا العقل الخلاق والتدميري. كل تلك المسافات والتطورات والرؤى، وهذه العبارة (لا شيء يستحق الذكر) ما زالت تشكل فحوى الوجود البشري وحقيقته المستترة والمعلنة، لا شيء يستحق الذكر، عدا ذلك الخط الذي يقسم الورقة وينقض من الأعلى نحو لا نهائية الفراغ، لا نهائية الوحدة والشوق. إن رسائلك لتنهمر عليّ، أيتها الكريمة في الحضور والغياب. وكالعادة افتتح بها يومي لتعيد ترتيب هذا الشتات، ولو نحو وجهة غائمة، في طور البحث عن وضوحها الخاص إن أمكن، وإلا فالسكنى معك دائماً على مقربة من حلم سعادة وآمان. ذلك العالم وتلك الأشياء والحيوات، لولاك لكانت قاتمة وكئيبة. بنظرتك المتأملة المرحة تتحول إلى حقول تسرح فيها الجنادب والغزلان ويجوب المطر أرجاءها، مطر الخريف الذي كأنما ينزل من قِرب سماء حانية وحصينة. على مقربة من سعادة وآمان في جميع الطقوس والأحوال، حتى ولو كانت عاصفة الشتات والحروب تقصف العالم. في مكالمتك الأخيرة، تلحينّ في السؤال على نحو فكاهي عن التي تدبر شؤون المنزل. كنت استمع إليك وأغالب العطس والسعال الذي ما زال مستمراً جراء نزلة البرد الحادة. أولئك الناس البسطاء الذين ينحدرون من الطبقات والفئات الأكثر انسحاقاً في المجتمع. الذين دائماً نمحضهم تعاطفنا وانحيازنا التام، وكأنما ذلك الشعور أو الخيار باتجاههم، هو الجزء العضوي من أحلامنا بالعدالة والحرية والمساواة. هذه الكلمات البعيدة الغور والتحقق، هي هاجس الفكر وحلمه بأشكال ومقاربات مختلفة، بدأت من البسيط الساذج وانتهت بالمركب ذي الطابع المعرفي المعقد. منذ بدايات تشكل الوعي الإنساني على هذه الأرض، وتشكل التاريخ، عقاب التاريخ كما وصفه بعضهم، وستظل (هذه الكلمات المفاهيم)، كذلك حتى ولو تحولت في أزمنة وأمكنة لا تحصى إلى نقيضها الفض والدموي.