يعرّف المعجم العربي التأمل على أنه: نظر في الأمر ملياً، وتأمل جمال الطبيعة، وتأمل في حقيقة أو مسألة. والتأمل الباطني هو إمعان النظر في حوادث الشعور وضبط صفاتها وتقريب بعضها من بعض للكشف عن قوانينها، والحق أن التعريف الأخير لم أفهم له معنى! اما المعجم الإنجليزي فاكتفى بتعريف (meditation) بأنه التأمل والتفكّر. أردت بهذه التعريفات أن أبين قصدي من مفهوم التأمل الذي يختلف عن مفهومه في اليوجا والممارسات التي شاعت كثيراً بين الناس، من أنه الاسترخاء العميق ومعالجة القلق والتوتر باستبعاد كل فكرة ترد على البال، للوصول إلى حال يشبه الغفو أو يقترب منه كثيرأ. ??? بالنسبة لإنسان متأمل تنطوي مشاهد الحياة اليومية على الكثير من الغرابة، فالناس عامة لا تكف عن الضجيج وافتعاله واستدعائه، إنهم لا يهنأون لحظة في حضرة الهدوء والصمت، بل إن أكثر ما يخافونه، التوحد مع النفس! ونحن عامة وفي لهجتنا الشعبية نقول: لا أستطيع الجلوس (بروحي) أي مع نفسي، أي دون وجود أحد. ويفزع الكثيرون حين تفرض عليهم الظروف البقاء في مكان منعزل، أو البقاء وحيدين حتى في بيوتهم!! وحين تسنح لهم الفرص لأن يجازوا من عمل، أو يذهبوا إلى نزهة أو سفر، فإن أول ما يفكرون فيه وقبل التفكير في المستلزمات الضرورية، هو البحث عن رفيق للسفر، حتى لو لم يكونوا على علاقة وشيجة به، إذ ماذا سيفعلون بأنفسهم حين لا يوجد من يأخذهم منها، من مواجهتها، من الوحشة القابعة حولها كسياج شائك! ربما أنهم يخافون أن تجرهم النفس إلى داخل ذلك السياج الذي أقاموه حولها على مدى السنوات، وقد يكتشفون ذلك “الصندوق الأسود” الذي تختبئ فيه الأفاعي، كما قال أحد الأصدقاء ذات مساء موحش، أو قد يكتشفون الخواء أو ينهض وحش القلق! في المشهد العام مشاهد لا حصر لها لوحشة النفس ونفيها، فإذا لم يجد الإنسان أنيساً إنساناً، وجده في ضجة الإعلام: تلفزيون، إذاعة، أشرطة فيديو، جهاز كومبيوتر، أشرطة مسجل، موبايل، مواقع إلكترونية هائلة الإتساع والتعدد. من أسوار التطور المذهل في تسارعه وغرائبه وتنوعه، المرافق الدائم في النزهات، في السيارة، في غرف النوم.. ضجة تلف به على مدى الساعات الطويلة وفي كل مكان.. أجهزة وآلات تنقل الضجة من صانعيها، إلى المستوحش والمستوحد! وفيما هي تلف على الإنسان وتلف به على مدى العمر، تحبك سياج الوحشة حول النفس المقصية. ??? قد يقول البعض: إذا كان التأمل يعني التفكر في أمر ما، فإن البشر عامة يفكرون، دون حاجة إلى العزلة والانقطاع إليها.. لكن الفكرة في عملية التفكير العابر، المستعجل والمحاصر بالضجيج، لا تأخذ تمددها في الاتجاهات المتعددة، المتعمقة، إلا ضمن عملية التأمل، الذي من شروطه: عزلة المكان، حرية وطمأنينة المتأمل. لذا لا بد للمتأمل من الترتيب والسعي لإقامة سياج من الطمأنينة حول نفسه وتوحدها بذاتها والوجود، ثم إن كل الفلسفات ما كانت لتكون، على تعدد غاياتها لو لا فعل التأمل وإشراقات الروح في عزلتها الأثيرة. hamdahkhamis@yahoo.com