يعرف بعض الحكماء مشكلة الإنسان بأنها ليست في النهم والرغبة الجامحة وحب الملذات، وإنما في الامتلاء والشبع الذي يتبع تحقيق اللذة، حيث يتحول هذا الشبع إلى ألم وعدم قدرة على الاستمرار في التلذذ، وبالتالي الندم على زوال الأشياء أمام أعيننا. فالوجبة الشهية تكون رائعة عند اللقمة الأولى، لكنها عند اللقمة العاشرة يرفض الجسد قدرة الاستمتاع بها، وقد نضطر في النهاية إلى تركها وحتى رميها. والحال كذلك مع الرغبات الأخرى التي تجعلنا معلقين بخيط قصير أوله الرغبة ونهايته الشبع كله. والامتلاء لا يقتصر على الرغبات فقط، هناك امتلاء العقل بالأفكار عندما يفتش الإنسان عن المعنى في حفرة صغيرة ويظن أنه وجد ضالته فيرضى بالرمل ويظل محدقا فيه، إلى أن يتحجر وعيه في منطقة ضيقة، فلا يعود يرتوي من أي نبع جديد ويظل الجفاف يحاصر حواسه كلها إلى أن يتحول إلى صنم. وهناك بالمقابل الامتلاء بالنور، وهي حالة تبدأ من انفتاح القلب على رؤية الجمال ودخول النور تدريجيا إلى أن تمتلئ روح الإنسان وجسده وعقله بالصفاء العظيم. والرائع أن الامتلاء بالنور لا يتوقف عند حد معين، ولا يوجد بعده شبع، بل يظل يتسع ويكبر ليشمل الكون كله. آخرون تمتلئ قلوبهم بالعتمة ولا سبيل إلى تخليصهم من شر أنفسهم. ذلك لأن الحقد وهو منبع العتمة في النفس، يتغذى من شجرة الكراهية ويرتفع داخل النفس مثل غمامة رمادية تعمي القلب أولا ثم العين والعقل وتدفع بصاحبها إلى حمل السكين ضد النقاء وإطلاق النار على العصافير والغدر بمن حوله في حفلة مجنونة لا يفوز فيها أحد. واللافت أن الشر أيضا ليس له حدود للامتلاء، وهو إن انتشر في بقعة ما، فإنه يأتي على جمالها كله. وحدها الوردة تكتفي بأخذ ما تحتاجه من النور في الصباح وتلفظ ما تبقى منه ليستفيد منه الآخرون، وإن طالت عليها الليالي تختار أن تفوح عطرا ليليا يشق الصمت والخوف ويبعث في الزوايا حياة جديدة تتغذى على الأمل وتكبر تدريجيا إلى أن تعانق الشمس من جديد. والبشر إنما يتصارعون على وردة المعرفة هذه، البعض يتلذذ بالنزف من شوكتها وهو يرفعها عاليا ويختارها رمزا للكلام الحر ضد ارتفاع السياط. وآخرون يدوسونها بالأحذية الثقيلة وهم يغنون باسم الحرب على الوضوح كله. أيتها الرغبات الدفينة في حيواننا يا وحوش الملذات في نهر الشبع إننا عابرون في قارب الوعي عميان أمام الشمس الوردة تنكسر في يدنا عندما نصفق متناسين أن الليل والنهار مكتملان وبلا ضد akhozam@yahoo.com