في عالم المادة السائد اليوم، يذوب الطيبون حتى وكأنهم سيختفون قريبا، يوما بعد آخر تسحبهم المدنية الحديثة، والأفواه المفتوحة على الطمع، وتكسر «مجاديفهم» كلمات التحطيم، وتكبل أياديهم بالابتزاز العاطفي.
يوما بعد آخر ينسحب الطيبون من عالمنا، تتغير وجوههم إن بقوا، وتنبت لهم مخالب وأنياب، أو في أحسن الحالات يصيبهم الانطواء والعزلة.
تأملوا حولكم وانظروا إلى أنفسكم ومن كان منكم طيبا فليضرب رأسه بحجر، لأنه فرد تبقى من جماعة انقرضوا، والموت مع الجماعة رحمة!
نحاول أن نمد أيدينا بالعطاء، فيخنقنا الطالبون، جرب أن تفكر بخدمة لشخص، وانظر إلى طوابير الراغبين في الحصول على ذات الخدمة.. منك.
جرب أن تكون كريما، وتأمل كيف ستكون أعجوبة في زمن البخل، وكيف سيعرف بك القاصي والداني، ويعاملك الناس أبد الدهر أنك وريث حاتم الطائي يطرقون باب كرمك ويريدون معونتك، رغم أن جيوبك تمزقت، ورصيدك البنكي أُقفل، وبيتك مرهون، وباقي حقوقك عند الناس بلعوها وشربوا فوقها «جلاص ماي بارد»
حاول أن تسامح زميلا أخطأ في حقك، وانظر كيف ستتحول إلى «طوفة هبيطة» أو «حيطة مايلة» لكل زملائك الآخرين، سيكثر المتنمرون حولك، وسيبالغ البعض في وصفك بالعامل الجبان.
جرب وحاول وانظر، لتقع نتيجة طيبتك في فخ «الابتزاز العاطفي»، وهو نوع قوي من أنواع الاستغلال، يمارسه المحيطون بك عليك، لكن ليس أي محيطون، بل الأقرب إلى روحك، الذين تحبهم، أهلك أقاربك، إخوتك، أبناؤك، وشريك عمرك.
لو كان ما يحصلون عليه بطيب خاطرك ورغبتك الخاصة فألف حلال على قلوبهم، لكن الابتزاز العاطفي يكون بتحميلك أمرا في وقت لا تريد فيه القيام به، أن توافق على ما لا يماشي قناعاتك، أو أن تدفع مالا أنت أحوج ما تكون إليه، أو حتى أن تجبر على التنازل عن حقك لمجرد الحفاظ على رباط الأخوة.
يترك الابتزاز العاطفي جرحا في النفس، أعمق من كدمة العنف الجسدي، جرحا فوق جرح؛ لأنه عادة ما يتكرر يوميا، جروح تؤدي بك إلى أن «تكسر خاطر نفسك» فتسأل ذاتك بانكسار: ليش انزين؟ أنا والله طيب
مع الوقت يتعمق الأذى فتشعر بضآلتك في العالم، ينخفض تقديرك لذاتك وجهودك، خاصة حين تكون ضحية لشخص لا يريد التنازل عن أفكاره سواء كانت صحيحة أو خاطئة، شخص لم يتعود العطاء، يسقط أخطاءه على الآخر لتكون على الدوام المعطي الوحيد في المعادلة.
يضطر الطيب في نهاية الأمر إلى الاستسلام للأمر، فينزوي وتذوب شخصيته ويفتح باب العطاء ويركن للصمت، حتى تمر الحياة وهو بعيد عنها، أو أن ينتفض على واقعه فيصبح شريرا جديدا في العالم، يرمي الطيبة خلف ظهره وينسى وجودها في حياته، يبدأ من جديد ليكون هو مبتزا عاطفيا مليئا بالأنانية حتى يختفي الطيبون.