“وضاقت عليهم الأرض بما رحبت....” تلك آية قرآنية كريمة جاءت في وصف أولئك الرجال الثلاثة الذين تخلفوا عن الذهاب مع الرسول إلى غزوة تبوك في صدر الإسلام وغزوات انتشار الدعوة والدولة، وبرغم كل ما حولهم فقد ضاقت عليهم الأرض لغضب الرسول عليهم ونظرة الناس المرتابة بهم... ومثل هؤلاء كثيرون منا ومن غيرنا ممن تضيق عليهم الأرض فلا يعرفون ماذا يفعلون.
تنظر حولك فتجد الموظف وقد ضاقت المؤسسة به وما عاد يطيق البقاء خمسة أيام فيها بل خمس دقائق، فلا يجد من يستمع إليه، ولذلك لا يجد بداً من الفرار، على سطح ورقة بيضاء يحملها رغبته في الفرار.. رغما عنه !!
تضيق الأرض بالناس لأن أناسا أو رجالا آخرين يضيقونها عليهم، وليس لأنها خلقت ضيقة لشخص وواسعة لآخر.
تماما كما قال الشاعر العربي قديما:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
هناك أشخاص مهمتهم تسهيل أمور الناس، وتيسير حياتهم، فيما يتعلق بالتوظيف والتعليم والتطبيب والمسكن والمأكل و.... كل شيئ تقريبا، لكنهم بدل أن يوسعوا على الناس فانهم لمرض في نفوسهم أو فساد سلوكهم يختارون البديل الأسوأ: تضييق الحياة والمعاملات على أهلهم وناسهم، فيدفعونهم للفرار حتى وإن كان الفرار باتجاه البحر والغرق والغربة والهجرة.
أسفل العناوين الصحفية التي تتحدث عن غرق مجموعة من الناس كانوا في هجرة غير شرعية، وموت آخرين كانوا في طريقهم للهروب إلى بعض بلدان أوروبا أو أمريكا أو أستراليا، عناوين كثيرة تلخص الفساد الذي فروا منه كما تلخص الفقر الذي لم يترك لهم مجالا حتى لهروب آمن على متن قارب أو طائرة، وتلخص جشع البعض الذين لم يتوانوا لحظة في الاستئثار بكل الخيرات والمصالح ليتركوا للآخرين الموت والهلاك والغرق في غربة الموت وظلام مياه البحار والمحيطات.
إنه الفساد ولا شيء آخر، الفساد الذي فجر الثورات عبر التاريخ، انه الفساد الذي بنوه وشكلوه بغباء استمر طويلا لأنهم اخترعوا له حراسا ووكلاء وشركات ومؤتمرات وعلاقات عامة وصحف ونساء جميلات ولا بأس ببعض المؤسسات الخيرية لزوم الديكور وذر الرماد في العيون، انه الفساد الذي يجعل أخلاق الرجال تضيق ببني جلدتهم فيمعنون فسادا، وتجعل رجالا آخرين يضيقون ببلدانهم فيفرون منها.
الذين يحاربون الفساد، المؤسسات والمنظمات، في أي شيء نجحت حتى اليوم فيما يتعلق بمحاربة الفساد وإقرار الشفافية يا ترى ؟ هل نجحت في أكثر من نشر التقارير والمعلومات ؟ نعم انه تقدم رائع في حقل المعلوماتية، لكن ماذا عن واقع الحال؟ ألا يزال الشبان يلقون حتفهم في البحر المتوسط كل يوم وهم يفرون من البطالة والفقر ومشروع سرقة الأحلام ؟ ألا يزال الفقراء يعيشون على جمع القمامة في بلدان كثيرة ؟ ألا يزال الأطفال يشكلون قوام بعض الجيوش في صراعات بلدان أخرى؟
حينما أقرأ تقارير الفساد حول دول العالم الثالث ينتابني إحساس أنها تريد أن تقول لنا أن الشفافية حق حصري للغرب فقط.


ayya-222@hotmail.com