من الممكن للنفس أن تتشظى، وأن تسكب غيثها كلما طرأت لها الرغبة أو ساقها الاطمئنان أو دفع بها الوجد لأن تبحر على أنغام تدندن بداخلها، وتبوح على ملأ من النجوم بمكنونها وكأني بها “النجوم” تثير الصمت الكامن في النفس وتأنس لحديثها بين حين وآخر... للنفس أيضاً أن تفر من ردائها ملفعة بالحذر فلا تشرع في شيء ولا تبدأ خطوة بعينها إلا أمام صحو اليقين. لا بد للنفس من أن تبث احتلاجاتها وتبوح بما تجده من وقع الحياة، لأنها إذا ما جثمت على أنقاضها وصمتت احتدمت فيها الهواجس والأحزان، ولأن الصوت إذا ما بقي محبوساً يتردد داخل جدران الجسد فقد يفسده ويوهن خلاياه ... لهذا تبحث النفس عن ملاذ وعن مساحة للقول تخفف من أوجاعها، وليس أفضل من الكتابة لكي تشرع النفس أبوابها على مصاريعها، وتدخل في شغف البوح. إلا أن الكتابة تأتي أحياناً ذاتوية، شخصية، يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، خاصة في السير الذاتية. وربما يأخذ البوح نصيباً كبيراً في هذا النوع من النصوص الأدبية، خاصة السردية منها، لكن لا ينبغي أن يكون العمل كله قائماً على البوح الشخصي، فالكتابة الإبداعية يشوبها البوح ويتقاسمها العقل ويسيطر عليها الفكر المفعم بالثقافة الحرة. ولا بأس في أن تخرج النفس ما يعتمل فيها، وتبوح بحثاً عن صمام أمان، أو تعبيراً عن مواقف معينة، لكن ماذا لو خرجت النفس عن طورها ونسقها ونسيت صمام الأمان وباحت بما في داخلها ولفظت إلى الورق مواقفها العامة والخاصة، وآثرت الصراحة صمن هذا البوح السهل مهما كان ملائما أو مخالفاً؟ الحقيقة أنه ليست المواقف ذات العلاقة بالسياسة أو الملتصقة بها هي ما يشغل النفس، وليست أحاديثها هي ما تضمره وتقتات عليه فقط، وإنما هناك أيضاً تشعبات الحياة اليومية وتداعياتها وهمومها، خاصة في حال كان الإنسان مكبلاً بواقع مرير، يعايش ظروفاً معقدة وصعبة أو يحيا في معاناة تستحق الكتابة. من هنا، لا يقتصر الاسترسال النفسي على قضية بعينها أو حالة بذاتها مهما كانت مهمة، بل يتسع باتساع الحياة. وعليه، من الأجدى إبداعياً استيعاب الآخر بكل ما في النفس من شفافية وبكل ما ينطوي عليه المبدع من حساسية إنسانية تهيأت له من خلال ثقافته واطلاعه. إن آلية الانفتاح النفسي على الآخر لا تقتصر فقط على الأفراد بل تمتد إلى المجتمعات أيضاً، فالمجتمعات المتحضرة التي تتقبل الانفتاح نفسياً على الآخر، تسير بسرعة أكثر وليونة أكبر نحو النضج الفكري وتحقق طموحاتها بأقل قدر من العواقب، وتتجنب الهزات المفاجئة والاختلالات المختلفة. وليس من تجن في القول بأن الثورات الاجتماعية القائمة هنا وهناك مردها في الأصل هو غياب الانفتاح النفسي والتعاطي الحضاري مع القضايا المختلفة، وهناك الكثير مما يدلل على أن المجتمعات التي تتخذ من الشفافية نهجاً لها، هي مجتمعات في أمان وقادرة على الحوار.