يصعب على النفس التغزل في المدن ذات الطابع النيويوركي، فهذه المدن لها عشاقها من موظفي المال أو الهاربين بحلم الثراء في بقعة لا يراهم فيها أحد، في تلك المدن تشعر أيها الحكاء أن كل شيء مجمد في ردهة فندق أو أن الفنادق من فحش ثرائها يمكن أن تختصر المدينة، ولولا ذلك النخل الاصطناعي الذي تحركه الريح، وما يمكن أن تمنحه الطبيعة من فرح ورقص للأشياء المهادنة، فتجعله يئن من أساسه الضعيف، لما عرفت أنها ترعد، وقد تمطر في الخارج، لا شيء يمكن أن يدل على المطر الجميل مثل تلك القرى الصغيرة في أوروبا أو بعض الطرق الحجرية في مدنها العريقة، هناك.. ثمة ترحاب بالمطر على معاطف النساء الوبرية، على زجاج واجهات المقاهي، واقيات المطر التي تخرج فجأة بألوانها، متقاعد مخلص لجريدته يمكن بعد قراءتها أن تستر رأسه في رجوعه من زخات مطر مشاغبة، صبايا في زهو الجسد، واكتشاف جغرافيته، حيث لا يمكن للمطر حينها إلا أن يزيد من نضارة العمر، ويعطي للوجوه تورداً مبتلاً، وحدها المدن ذات الطابع النيويوركي والتي لا ترحم الفقير بالتأكيد، تشفق عليها من الأضواء الاصطناعية، ومن نشرات الطقس التي تبثها الشاشات المثبّتة على جدرانها الملساء، متنبئة لها دوماً بيوم جميل، غير ممطر!
- في المدن النيويوركية المرعبة بأبراجها وفنادقها الباذخة يتراءى لك ذلك الهندي الذي يريد أن يوحي للناس بأرستقراطية بريطانية استعمارية مزيفة، نافثاً بما في صدره من استخفاف بالعرب، ناظراً لهم بدونية لا مبرر لها، غير إجادته للإنجليزية بحكم الظروف، ما يفضح ذلك الهندي المتأخر، المتورم بنقوده خاتم في الإبهام وآخر في السبابة، وسلاسل ذهب كأفاع في العنق، وبقايا سيجار كاذب لا يتناسب وتلك السمرة الواضحة بعمق والتي يخجل منها أمام الإنجليز!
- في المدن النيويوركية ثمة مشاهدات متأملة، وأخرى متألمة نحو وجوه مغيبة وأخرى غائبة تسحب ثقلها في الفراغ، وتيه الحديد، وما يمكن للأبنية بتعاليها أن تسحق الأرواح الصغيرة الذاهبة نحو براءتها ونزق دهشتها، وجوه مسطحة تشبه السهول والبراري البعيدة، وجوه متربصة يسكنها فزع اللحظة والضياع، وجوه واجمة، وكأنها تنتظر مصيرها الحتمي بعد قليل، وهنا بالذات، وجوه لا تمت للمكان بصدق، تشعرك أن أحداً أجبرها على الخيانة، ولا تدري كيف تتوب بالعودة سريعاً، وجوه لا يمكن للمرء المؤمن ألا أن يعتقد أنها مختصة بتسهيل أمور تفضي بين الرجل والمرأة وثالثهما الضاحك، ثمة وجوه كثيرة للفشل في تلك المدن، ولأنه لا يسأل عنها تزيد من التحني بوحلها، والتغني بمجدها، فتخرسها مقابر النسيان، وحدها الوجوه الصادقة تجدها هاربة من تلك المدن نحو فضاءات تفرح بالمطر، ولا تترقب نشرات الطقس الكاذبة!


amood8@yahoo.com