يومها.. كنت مثقلاً بذلك النهار، والراديو الصغير الذي اشتريته بنصف مشاهرة شهر أبريل تقريباً، ظل يبث الحزن والأغاني الحماسية والوطنية والقرآن، وبقي لا يفارق اليد والأذن، وكأس شاي الصباح البلاستيكي بالحليب لم أستطع أن أكمله، رغم أنه فرح الصباح عادة، كانت ثمة مرارة بطعم الحمى في الفم، تبلغنا بالإجازة الطارئة وكان الفرار إلى العين، حيث الاحتماء ساعة الشدة والفقد، وساعة ما تهب رياح تريد أن ترّج الثوابت من الأشياء النبيلة في الحياة، كنت منكسراً ذلك اليوم، أحسست بأن أحد جدران البيت الطيني الأثير انهار فجأة، وبان ستر البيت، وأن الصورة المعلّقة اختلطت بالغبار والطمي أو هوت من عليائها وأخذها سيل وادي الداوودي للبعيد، هكذا تخيلت ذلك الحزن الطارئ بحجم صور الكارثة القليلة التي تسكن في رأس الصبي الصغير. تذكرت ما كان يردّده الصغار من كلام الكبار وهم يلعبون تحت السدرة العتيقة في مدرسة النهيانية القديمة، عن الإنجليز والاستعمار والاستقلال والوحدة العربية أو ما يصرخ به ذلك العدني ذو الأسنان الذهبية عن جمال بمزيد من الفخر والأصل، يشفعها بمسبة العار إن عانده أحد أو جرت الأمور على غير ما يشتهي. كان الحزن غالباً ما يعبّر عنه ناسنا الأولون بـ“الخسارة” هكذا كانت بيوت العين في ذلك اليوم، يومها التصق الناس بالراديو الذي كان يزيد حزنهم وحريقهم، ولا يريدون أن يصدقوا ما يسمعون.?في يومي التالي، وبعد المشي من حارة الربينة على غير هدى، ولمسافة طويلة عادة لا نحسبها في ذلك الوقت بالكيلو مترات، كان سهلاً أن تقطع بين الركض والمشي والمراوحة بين التأمل وملامسة الأشياء، حتى وصلت إلى آخر منطقة الصاروج على أطراف العين، ومن هناك انطلقت الجنازة الرمزية التي اختلط فيها الناس ذلك اليوم. ?الآن لا أدري إلى أين وصلت الجنازة، ومن كان آخر رجل فيها، أتذكّر أنني ذهبت راكضاً راجلاً وجلاً وصادقاً لمسافة تعد بعشرة كيلومترات بحساب اليوم لمرافقة نعش متصوّر، كان فيه الجميع يجهش بالبكاء، ويتلو الآيات، ويقرأ الأذكار، ويستغفر للرجل ويترحم عليه. رجعت أكثر حزناً وألماً للمسافة نفسها، أجرجر خطى في تيه معرفة الأشياء ومعانيها، ولما كل هذا الحب لهذا الرجل، ما الذي فعله في النفوس؟ عدت إلى المنزل الطيني الذي كانت تستقر على أحد جدرانه صورة بالأبيض والأسود لرجل متأنّق، بمنديل هرمي جهة القلب، يهب للناظر إليه شيئاً من الفخر والكرامة وهيبة الرجال، ويفخر التاريخ بأنه كان ضمن مسيرته رجل نظيف وحالم مثله.. كان يريد أن يعمل شيئاً..! ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com