أمام هذه الوحشية التي تنهال عبر شاشات التلفزيون، لم أستطع أن أقاوم رغبتي في الهروب من كل شيء، أعرف أن الهروب فعل جبن غير قابل للصرف، لكنه قابل للقسمة على ملايين الناس، فالكل يهرب نحو وجهته التي يعتقد أنها الأكثر أماناً، ألا يحق لنا أن نهرب؟ ?أعتقد أن الإنسان إذا أراد حماية إنسانيته، فلا مفر له من الهروب، أما الدخول في عبث الفرجة على الدماء والجثث المتناثرة في الطرقات فليس سوى قرار بالموت البطيء!! ماذا بإمكانك أن تفعل إزاء الوقاحة والوحشية، إزاء الصراخ والعويل، إزاء آلة الحرب، خصوصاً أنك في بداية كل عام ونهايته تكتب قدر استطاعتك كلاماً جميلاً حول الأمنيات والتمنيات والبهجة المضيئة، تدبج أشعاراً لا يقرؤها سواك، وتتحدث عن السلام والجبال والأطفال الذين يشبهون الملائكة، والأزهار التي تتمنى لو جمعتها من كل الدنيا لتقدمها الناس، ماذا بإمكانك أن تفعل حين يجف كل الياسمين على عتبات بيتك ليستقر في مفارق رأسك مشعلاً قلبك بالحزن والصمت؟! ?يبدأ العام، فتقول وتكتب لكل من تحب وتعرف كلمات تكفي لترقص عليها جيوش من الصبايا، يمر العام ولا يعبر الأفق سوى الخيبات والمزيد من الحروب والأزمات، ويمر العام ثم ينتهي فلا تبدو في الأفق أي بشارات، تمطر السماء على الفقراء وأطفالهم حمماً وقنابل، يذهب الأطفال بجوعهم وعطشهم إلى السماء فتخلو منهم ساحات المدارس والحارات وأحلام مذيعات الأخبار!! تبكي أم كما لم تبك أي أم في العالم، على الهواء مباشرة، ليس لأن ابنها لم يعد حتى وقت متأخر ولكن لأن خمس طفلات بهيات اقتنصهن صاروخ همجي غادر!! أمام هذا الرعب كله ليس أمامك سوى الاندفاع نحو النوم تفتح بابه وتندس فيه سريعاً، تخلع كل ما لصق بك من أصوات وأسماء ووجوه وتنسى أصوات ووجوه مذيعي “الجزيرة” و”العربية” والـ”بي بي سي”!! لا حاجة لمزيد من النقل المباشر للموت العلني، فذلك مرعب جداً، هذا الإعلام المباشر ليس سوى فعل مؤامرة كبرى ضد إنسانيتنا، ولندع جانباً كل الكلام المؤثر عن حرية الرأي وحق الحصول على المعلومة وإلخ، فنقل الموت إلى غرف النوم لـ24 ساعة متواصلة ليس نقل معلومة وليس حرية مبتغاة، إنه تدمير مقنن ومبرمج لنظامنا الوجداني ولكل أعصابنا وأحاسيسنا. لقد اعتدنا بشكل رؤية الدم والأشلاء وعيون الأطفال المفتوحة على رعب الموت المفاجئ!! هكذا نمنا أثناء حرب العراق ولبنان وغزة، وهكذا نمنا أثناء ثورة مصر وتونس ومذابح مصراته واليمن وسوريا و... بعد أن بكينا طويلاً وكثيراً، وبعد أن طرحنا ملايين الأسئلة على كل ما نعرفه من أنظمة ورموز وسياسات وتوازنات، تأملنا الوطن الذي صار بالحماقة والغباء وعدم الرشد السياسي ليس أكثر من مدرج روماني تجري فيه مصارعة دموية بشعة، تخيلناه وقد تآكل تماماً، ثم تحول سجناً كبيراً، ثم صار حقل ألغام، وأخيراً محرقة معلنة للجميع، أي أوطان وأي دول وأي أمان وأي ديمقراطية وأي جنون وأي إنسانية وأي دفاع العروش والمناصب؟؟ هكذا انتهت أعوام، وهكذا بدأت أعوام كثيرة، لم يرتق الإنسان فيه نحو إنسانيته بقدر ما انحدر صوب شهواته، ومع كل ذلك فنحن لا نزال نعيش على هذا الكوكب المسكين، لدينا أصدقاء طيبون وأهل أكثر طيبة، وعلينا لأجلنا ولأجلهم أن نتفاءل ونظل متفائلين، بانتظار سنوات أخرى ستهل علينا أكثر رحمة وأكثر أماناً... اللهم نحمدك كثيراً على نعمة الأمان. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com