عدت للقراءة بعد فترة قصيرة اعتبرتها استراحة من الألق. روايات عدة تقف في صف الانتظار. تنسج خيوطها عبر فلسفة تحبك المشاهد والرؤى، ولا تدع الزمن يسير وحيداً دون أن تدرج فيه واقعها وتلبس الحياة خيالات وتساؤلات، تؤنس النفس وتفتق الفكر، وتجلب إلى الذاكرة فلسفة دوران الزمن، أليست الكتابة بتقنياتها المختلفة تجدد الحياة؟ أرجأت قراءة “أنثى السراب” لواسيني الأعرج، بسبب ضخامة العمل وفلسفة النسق الروائي المختزل كعادة روايات المغرب العربي، لألج غمار رواية “حياة باي” للمؤلف الكندي “يان مارتل” الذي استوحى فكرة الرواية من صديقة دربه المحبة للمغامرة. لذا حشد لها عناصر شتى منطلقاً من عاملي الخيال والمغامرة، علاوة على بعد فلسفي أعطى للعمل الروائي زخماً وعمقاً.. إذ تشابكت خيوط الرواية على هذا الأساس فنالها بعض التميز الذي جعلها تفترق عن الروايات التاريخية التي تعزف عادة على وتر الزمن وتحولاته، بحيث تلهم القارئ مساحة واسعة للتفكير والتأمل في ما يحيط به من ثوابت. تجسد الرواية حياة “باي”، الفتى الهندي القلق، الذي نشأ على حب التغير والبحث واكتشاف الأشياء بما في ذلك اسمه وعقيدته، فهو يغير اسمه إلى “باي” كما سبق أن غير ديانته التي نشأ عليها وهي الهندوسية إلى المسيحية ثم استقر على الإسلام، في بحثه الدائم عن إدراك الخالق عز وجل. منذ بدايته، يوحي العمل بمثل هذا الانقلابات على الواقع والتمرد على المنشأ، وهو المكان الذي يصوره الكاتب بحرفية متقنة. فبعد التغيير الذي بدأه “باي” فان عائلته أيضاً تقرر نقل حديقة الحيوانات التي تعتني بها إلى كندا مما يعني أن الكاتب بدأ يقرب العمل الروائي إلى المشهد الأكثر إثارة، حيث اللعب على عامل الطبيعة والبحر تحديداً يمنح العمل إمكانات جمالية ضافية تسهم في نجاحه. وبالفعل يمكن القول إن البحر كان منحىً مهماً في ثيمة التشويق التي ينهض عليها العمل، سواء في ما تعرضت إليه الرحلة، وما آلت إليه مشاهد الرواية من تحطم السفينة أمام قسوة الطبيعة ونجاة “باي”، أو في تجديد الإثارة القصصية وأخذ العمل إلى مكانات مدهشة فيما الأحداث تجري بدراماتيكية ممتعة. فانحصار الشخوص غالباً ما يصعب العمل على الكُتّاب ويضيف أعباء في تحقيق الإنجاز، ما عدا تلك الأعمال القائمة على الإثارة كما في هذه الرواية بتقنياتها الجاذبة، والقادرة على الأخذ بانتباه القارئ وما ذلك إلا بسبب براعة الكاتب وقدرته على رسم الخيال وتجسيده أمام قارئه في كلمات. بهذا المعنى، يمكن التأكيد على أن الرواية تحرك خيالاً كامناً وتستدعي خيالاً مؤجلاً بحكم الواقع المشبع بكل ما يحجم الخيال. وعبر المتعة الجمالية والغزارة المعرفية التي يتحصل عليها المرء وهو يتوغل في رواية تتكئ على الرؤى الفلسفية العميقة في عملية القص فينجح الكاتب في الزج بالقارئ إلى مضمون العمل حتى لا يعرف التنصل من فصوله. أخيراً... تستمد هذه الرواية قوتها من كونها وحدت الطبيعة في قارب صغير. لقد نجح الكاتب في سرد روايته، ولا يضيره بما أثير حولها، وقد تشترك مع أعمال أخرى في جوانب معينة إلا أنها تبقى ذات طابع إبداعي جميل ومهم.